kayhan.ir

رمز الخبر: 39166
تأريخ النشر : 2016May27 - 18:06

عندما يتحدث كيسنجر عن الشرق الأوسط .. استمعوا جيداً!

كمال شاهين

حتى اليوم، هناك في العالم العربي من السياسيين والمفكرين من هو مقتنع بأن تبدل إدارة أميركية بأخرى جديدة يعني تغيراً دراماتيكياً ممكناً في التعامل الأميركي مع المنطقة. التدقيق في مجريات العقود الأربعة الفائتة ينفي هذا التبدل، ويؤكد وجود استمرارية نسبية، مبنية على قواعد تحافظ على خطوط عريضة ثابتة.

وبرغم مضي أكثر من قرن على بدء العلاقة الأميركية مع العالم العربي ووفرة الدروس التي قدمتها التجربة العملية، فإن النظرة العربية ما زالت مبنيّة على إيمان ساذج بالفردية التي توفرها منظومات الحكم الأميركية، في تجاهل لبقية المكونات المؤسساتية التي تفرض آلية معينة (جماعية في معظم الأحيان) في إنتاج أي قرار سياسي أو اقتصادي، ليس أقلها شأناً مراكز الدراسات والأبحاث التي ينفق عليها ملايين الدولارات. علماً أن قراءة تصريحات بعض رموز المعارضة السورية توضح التخبط الكبير في فهم العلاقة مع الإدارات الأميركية فهماً جلياً.

تجربة العرب مع «العزيز هنري كيسنجر» بتعبير الرئيس السادات، توضح تلك الاستمرارية التي تتغير في مظاهرها وشكلها من دون تغيير في العمق. هناك استراتيجيات توضع لعقود كاملة تستقرئ كل الاحتمالات الممكنة لسنوات قادمة، يضعها عتاة الساسة والمفكرين وفقاً لمعطيات معينة. هذا ما يسمى بالتخطيط وليس بالمؤامرة، ونجزم بأن صديق كيسنجر المقرب صموئيل هيتنغتون سعيد بأن العرب قد نفذوا بشكل شبه حرفي ما ورد في كتابه «صراع الحضارات» (صدر 1993).

وبعيداً عن الشعبية «الشريرة» الطاغية لكيسنجر في أدبيات السياسة العربية وغزارة ترجمات كتبه، فإن قليلاً مما طرحه منذ دخوله حلبة السياسة الدولية (العام 1969 مستشاراً للرئيس ريتشارد نيكسون لشؤون الأمن القومي) حتى اليوم قد تغير فعلاً، سواء على صعيد التنظير السياسي أو على صعيد قراءة سياسات الإدارات الأميركية المتلاحقة، وخاصة ما يتعلق برؤيته للشرق الأوسط.

يصر العزيز هنري في كتابه الأخير «النظام العالمي» الذي يمثل خلاصة طروحاته السياسية والفكرية على امتداد سبعة عقود عمل فيها محركاً وصانعاً لعشرات التغيرات حول العالم، على أن عهد الدولة القومية التي تأسست قبل مئتي عام في «اتفاقية ويستفاليا» (العام 1648) على أنقاض حروب الدولة الدينية في أوروبا ما يزال صالحاً للحياة، لكن ما يتهدده هو الإسلام السياسي العابر للحدود الذي يفتت مفهوم الدولة القومية إلى شكل قبلي وطائفي يتعارض مع الشكل الحداثي للدولة.

ليست هذه النظرة بجديدة على العزيز هنري، إذ لطالما قام عبر عشرات كتبه بالتنظير لها خارجاً من ثوب التراث الاستشراقي الصهيوني، الذي نظّر له وبقوة مؤثرة في الدراسات الغربية عن الإسلام كل من برنارد لويس وإيلي خدّوري. وتعتمد هذه النظرة على تفسير سلوك الدولة في الشرق الأوسط ذات الغالبية الإسلامية بأدوات تحليل دينية مشتقة من التاريخ الإسلامي، تنظر للعالم ككل على أنه داران (فسطاطان) واحدة للإسلام وأخرى للكفار، وهي الثيمة التي تظهر بوضوح في خطابات جماعة «القاعدة» ومن تلاهم مثل «داعش» وبقية التنظيمات.

تجربة كيسنجر العملية الأولى وجدت أثرها في «فيتنام السوفياتية» (أفغانستان) التي هزمت المارد الشيوعي، وزرعت اللبنة الأساسية لما سيكون لثلاثة عقود لاحقة شبحاً عالمياً يمكن توظيفه في أي معارك تحتاجها الإدارات الأميركية: الجماعات الإسلامية الجهادية.

في العام 1975، وبعد استثمار ما سُمي وقتها «البترو دولار» على خلفية ارتفاع سعر النفط بنسبة 400 في المئة، نجحت استراتيجية كيسنجر في امتصاص الأثر لإنقاذ الاقتصاد الأميركي المفلس. لم يكن الأمر نتاج تفكير الرجل وحده. اليوم تعاد الصيغة نفسها بطريقة محدثة. في العام الماضي، بلغت مبيعات الأسلحة الأميركية للسعودية 80 مليار دولار، مثلاً، جزء منها استثمر في الحرب السورية.

لم تكن «القاعدة» وقبلها ظاهرة الأفغان العرب بعيدة عما يجري اليوم في المشرق العربي. وهي ليست إلا امتداداً لدور ساهم فيه كيسنجر بصعود الإسلام السياسي عبر استراتيجية إقليمية متكاملة، وظف فيها كل ما يمكنه من قدرات واستثمارات لتحقيقها. في تموز 1979، نصح زبيغنيو بريجينسكي الرئيس كارتر بتقديم مساعدات «غير قاتلة» للمجاهدين الأفغان. هل سمعتم بهذا المصطلح حديثاً؟

كثير من التوجهات اللاحقة للإدارات الأميركية بما فيها الحالية، تعود إلى حقبة ما بعد حرب تشرين «أكتوبر 1973»، حين حدث ذلك التحول العظيم في التفكير الأميركي تجاه العالم الذي نجد آثاره في كل مكان هذه الأيام. وبعكس الصورة التي تمتلئ بها الميديا من انكفاء وانطفاء أميركي لدورها في العالم العربي، فإن التدقيق في الصورة يوضح خلاف ذلك تماماً. إذ إن النصائح التي قدمها كيسنجر في السبعينيات، ثم نصائح بريجينسكي في التسعينيات، ما تزال راهنة في السياسة الحالية للرئيس أوباما، وما تزال محتفظة بمكونات الطبخة العتيقة نفسها مبنية على حسابات العوامل الجيوسياسية، ويتضح ذلك في الموقف من الأزمة السورية الراهنة.

الكلام الأخير لكيســـنجر جاء في مقاربة لأحداث «الربيع العربي» التي هلل لها الأميركيون بحــــسب قوله، محذراً من الانفجارات المتتالية التي قد تفضي إلى بلقنة الشرق الأوسط. في حديثه عما يجري في سوريا التي وصــــفها بالدولة غير التاريخية Non-Historic State ، وجد الحل في تفكيك الدولة الســـورية إلى ثلاثة أجزاء من ضمنها جزء كردي، وقال: «في ما يخصّ سوريا، يبدو بوضوح أن اللاعبـــين المحليين (داخل سوريا) والإقليميين (في الشرق الأوسط) عاجــــزون عن إيجاد الحل إذا تركوا وحـــدهم. ومن ثم فإن جهودا أميركية ـ روسية متجانسة تنسّق مع قوى كبرى أخرى قد تنتج خطة لحلول سلمية في الشرق الأوسط وربما في غيره».

تتفق هذه القراءة مع قراءة الرئيس أوباما للأزمة السورية، الذي ينطلق من ضرورة التوافق مع العملاقين الجديدين القديمين روسيا والصين، وفي الوقت نفسه الاستمرار بالتدخل بطرق غير مباشرة عبر تقديم مساعدات «غير قاتلة» للمعارضة السورية وتدريب عناصر منها.

فيـــما نتذكر أنه مضى مئة عام على اتفاقية «سايكس بيكو»، يذكّرنا العزيز هنري بأن الاستراتيجيات الكبرى لا تبنى بين عشية وضحاها. بينما يبدو أن كعكة شرق أوسطية جديدة على وشك أن تنضج ليبدأ بعدها التقطيع، المهم سلامة «إسرائيل».