مؤتمر النهضة ، كم من الأسئلة ، بعض الأجوبة .
أحمد الحباسى
يعقد مؤتمر تصحيح مسار حركة النهضة أو ما يسمى برغبتها في الانتقال من الدعوى للسياسي في ظل مناخ داخلي و خارجي متأزم بالفعل و تحت أنظار كثير من المتابعين من الداخل و الخارج أيضا ، فالعملية الجراحية التي سيجريها بعض الراغبين في ” التغيير” لا تلقى رضاء كثير من المنتسبين و المؤسسين الذين ” تورطوا” في هذا الانتماء طيلة عهدين من حكم تونس و وجدوا أنفسهم اليوم على الهامش غير قادرين على الفعل أو رد الفعل ، و لان الحركة قد نشأت في الظل و الخفاء فقد شهدت دائما صراعا محموما بين ما يسمى بالصقور و الحمائم ، بين الذين يريدون عدم قطع شعرة معاوية مع النظام و بين من يريدون إقامة دولة الخلافة بقوة الإرادة و السلاح بحيث ظل هذا الانقسام الفكري مسيطرا على الأذهان حتى بعد اندلاع الثورة ووصول الحركة إلى سدة المشهد السياسي الحكومي في تونس .
يقول السيد لطفي زيتون أن الحركة قد فشلت في الحكم لأنها لم تكن مستعدة ، هذا جزء يسير جدا من الحقيقة لان الحركة قد فشلت بسبب عدم ملكيتها لأي مشروع سياسي مقبول قادر على الحياة و التطبيق و كانت منقسمة على نفسها بين الذين يريدون الانتقام للماضي و الاستيلاء على السلطة لإقامة الخلافة و اعتبار تونس أرض الميعاد بالنسبة لكل الإخوان في الحركة و في العالم ، و بين هؤلاء الانتهازيين مثل وزير العدل السابق نورالدين البحيرى الذين خيروا ممارسة السلطة بفكر الأربعينيات مع التخلي عن "المشروع” و عن الفكرة و عن المصير المشترك مع الإخوان في المشرق ، و لان مسيرة الشيخ راشد الغنوشى قد كانت مليئة بحالات الهروب من ” المعركة ” مع السلطة و المخاتلة و الزئبقية السياسية فقد تحول من صديق لإيران إلى عدو و من عدو للسعودية إلى شبه صديق و من غافل عن قطر إلى تابع لها و من "مؤمن ” بأفكار السابع من نوفمبر إلى هارب إلى عاصمة الضباب اللندنية و قد كان منتظرا خاصة بعد فشل النهضة في الحكم و اعتصام باردو الشهير أن ينقلب الرجل من ساحة الصقور إلى ساحة الحمائم حتى يجتب الحركة المحاسبة و السجون بسبب الانتهاكات التي نالت المناضلين في سليانة و اغتيال الشهداء بلعيد و البراهمى إضافة إلى نهب المال العام و الاستيلاء على الممتلكات و بيع السياسة التونسية إلى "أصدقاء سوريا” و بيع البغدادي المحمودى للميليشيات الليبية في موقف قذر أسال كثيرا من الحبر .
اليوم تريد النهضة التخلص من حمل ثقيل ، تريد التخلص من الصقور داخلها أو خارجها ، تريد التخلص من تهم الماضي و أعباء تحمل مسؤولية كل الخطايا الإجرامية في حق هذا الوطن و المواطن ، تريد أن تتبرأ من خطب الدعوة للفوضى و التكفير و إسقاط مفهوم الدولة ، تريد أن تتخلص بكثير من الحذر من بعض العلاقات الآثمة مع بعض الجماعات التكفيرية و الحركات و الكيانات المشبوهة التي تعيش اليوم منبوذة في العالم ، تريد تجريب الديمقراطية و محاسن الديمقراطية بعدما فشل شعار ” الإسلام هو الحل” و بقية الشعارات الأخرى التي طالما جلبت للنهضة أوجاع الرأس مع السلطة السابقة ، لكن هذا التحول الدراماتيكي 360 درجة يثير حالة من انعدام الوزن و الدوار لدى أغلب المنتسبين للحركة خاصة من هؤلاء الذين يشعرون اليوم بالخيانة و بكون رئيس الحركة يسعى للتخلص من ارث الماضي بمجرد قفزة في الهواء لا يدرك تبعاتها في المستقبل خاصة في ظل حالة من التخوف و الريبة لدى الأحزاب العلمانية المواجهة .
في خطاب الأمس قال رئيس الحركة راشد الغنوشى كل شيء و تحدث في كل شيء ، لكن من الواضح أن رضاء قاعدة الحركة غاية لا تدرك بسهولة و مجرد التخلص من اللباس الدعوى القديم إلى اللباس السياسي الجديد ليس سهلا كما يظن البعض خاصة و أن كوادر النهضة لا يزالون يعانون من ارث الماضي بكل تضاريسه ، و الوطن بالنسبة للبعض هو مجرد مسكن لا يجبرهم على الانتماء ، أو القبول بالعيش المشترك مع بقية ” الكفار” و الخارجين عن مفهوم إسلام الجماعة ، و لعل أهم ما هو مطلوب اليوم من الحركة أن تنخرط في العملية السياسية بما فيها من مطبات و خفايا توجب عليها كثيرا من التنازلات المبدئية المؤلمة لان السياسة وسخة بطبعها ، لكن يظهر أن الحركة قد تخلت عن مواقفها ” النظيفة” لتدخل سوق المزايدات السياسية الوسخ دون أن تكون مستعدة بالقدر الكافي للسباحة ضد التيار ، طبعا ، هذا التغيير في خطاب النهضة بالأمس مهم للغاية و يسجل لزعيم الحركة لكنه في نفس الوقت يؤكد للمتابعين أن النهضة قد كانت تسير في مشروع خاص مطلوب من الخارج لتتحول اليوم إلى السير في مشروع عام يهم كل التونسيين و هو ما يعتبر اعترافا صريحا بهزيمة مشروع الحركة الذي لم يكن مشروعا قابلا للحياة في ظل المتغيرات الدولية .
هناك اليوم أفكار ناعقة ترفض السير إلى المستقبل متمسكة بمشروع الخلافة المحموم ، و هناك من لا يزال يحن للماضي مستندا على قوة الإخوان في مصر مع أنها قد أفلست و صارت من الماضي سواء في مصر أو في تركيا ، هؤلاء المتاجرون بالإسلام و الذين نشاهد ما صنعوا بهذا ” الإسلام” المزيف في سوريا و العراق يعلمون أنهم قد انكشفوا للعموم و أن كل شعارات الإخوان قد سقطت في ساحات الشام بعد أن تحولت تلك الشعارات البائسة إلى جهاد النكاح و جهاد إسقاط الأنظمة العربية لفائدة الصهيونية العالمية ، و لان الشيخ الغنوشى قد رضع من كل هذا ” الحليب” المسموم و يعلم خبايا أصدقاء الأمس فقد أراد أن يقفز بأتباعه إلى بر الديمقراطية قبل فوات الأوان حتى يجنب الحركة محاسبة التاريخ و الشعب و القانون لان الديمقراطية تضمن الحقوق و تبقى دائما أفضل من الظلامية الفكرية للإخوان ، بل لنقلها بمنتهى الصراحة لم يعد هناك مكان اليوم في تونس لصالح كركر و الصحبى عتيق و حمادي الجبالى ، تونس اليوم تستعيد بريقها شيئا فشيئا و تطرد خفافيش الظلام لتعيش المستقبل بكل تحدياته طارحة نفسها دولة يتعايش فيها الجميع.