مصداقيـة حـزب الله فـوق منطـق البقــر
أحمد الشرقاوي
الدّجل في التعريف اللغوي يعني الكذب والتمويه والادعاء الزائف دون حجة أو دليل.. والدّجّال في الاصطلاح الإعلامي، هو المُهرّج المأجور منعدم الضمير، الذي يسعى بكل السبل والوسائل لتلبيس الحق بالباطل وتسويق الادعاء الزائف باعتباره حقيقة لا يرقى إليها الشك..
هذا بالضبط ما يصدق على إعلام الزيت الذي وصلت به الخسة والدناءة والانحطاط الأخلاقي مستوى غير مسبوق في التعاطي مع الأحداث والوقائع بهدف استغباء الناس وتضليلهم خدمة لأهداف لم تعد خافية على أحد.
مناسبة هذا الكلام حملة التضليل المُمنهج التي أطلقها إعلام البترودولار عقب اغتيال الشهيد القائد مصطفى بدر الدين في سورية، بالرغم من أن الحزب لم يُعوّد أعدائه فأحرى جمهوره ومناصريه المناورة والتمويه في هكذا حالات، ويُسجّل له بفخر أنه لم يسبق أن أسّس بياناته الرسمية على اتهامات سياسية افتراضية التزاما بقيمه الإسلامية ومبادئه الأخلاقية حفاظا على مصداقيته، لا يضرّه في ذلك كيد الكائدين، ولا أحقاد الحاقدين، ولا تشفي ضعاف النفوس من المرضى النفسيين.
منذ عملية الاغتيال المفاجئ، وبرغم وقع الصدمة وهول الفازعة، فضل حزب الله التريث وانتظار نتائج التحقيق، فوضع فرضيات ثلاث لمعرفة نوع السلاح المستعمل والجهة التي نفذت الاغتيال: التفجير بصاروخ جو أرض، التفجير بعبوة موقوته مزروعة في عين المكان، التفجير من خلال قذيفة مدفعية عن بعد..
وقد استبعد التحقيق فرضية العبوة الناسفة بعد الكشف عن نوع السلاح المستعمل، ناهيك عن استحالة إمكانية الخرق الأمني نظرا للإجراءات الأمنية المشددة القائمة في عين المكان.. كما استبعد القصف الجوي بواسطة صاروخ جو أرض لنفس السبب، أي نوع السلاح المستخدم، وهو ما أكده مسؤول عسكري سوري رفيع لوكالة الأنباء الفرنسية بقوله أنه لم يتم رصد تحليق أية طائرة في أجواء المنطقة ساعة الاستهداف، كما أن الولايات المتحدة نفت رسميا أن تكون طائراتها حلقت فوق سماء المنطقة وقت الحادثة.. وتبيّن وفق ما أعلنه الحزب في بيان رسمي بعد التدقيق، أن الاستهداف كان بواسطة قذيفة مدفعية أطلقتها الجماعات التكفيرية عن بعد.
ما من شك أن عملية من هذا النوع لا يمكن أن تنفذها الجماعات التكفيرية من تلقاء نفسها، وأن الأمر يتعلق بعملية استخباراتية وعسكرية مُموّهة وعالية الدقة، وقد تكون مجموعة أجهزة استخباراتية تقف ورائها لخلط الأوراق، وبالتالي، منطق الأمور يقول أن أجهزة استخبارات دولية وإقليمية قد يكونوا ساهموا بشكل أو بآخر في جمع المعلومات والتخطيط وتزويد الجماعة المسلحة التي قامت بالتنفيذ بقذائف مدفعية متطورة وبعيدة المدى.. ولأن محاولة معرفة كل من يقف وراء العملية هو أشبه بمطاردة الساحرات، فما هو واضح بالنسبة لحزب الله من نتائج التحقيق، هو أن الجماعات التكفيرية التي تحارب نيابة عن حلف المؤامرة مجتمعا هي المسؤولة المباشرة عن الاغتيال الجبان، وهي من يجب أن تدفع الثمن.
وحيث أن الأمر هو كما أوضحه حزب الله في بيانه الرسمي، فلن ندخل هنا في التعليق على المهاترات والأحكام المسبقة، ولن نقف عند محاولات الأقزام تشويه صورة حزب الله ووصم شهدائه بالإرهاب، ولن نردّ بالمثل على الشتائم الهابطة التي تجاوزت المدى وطالت شهداء وقيادات الحزب الشريفة، فقد دأب هؤلاء العملاء المأجورين على كيل الاتهامات المُغرضة للحزب بسبب محاربته للتكفيريين الوهابيين الذين يذبحون الشعب السوري نيابة عن ما يسمى بـ”السعودية” خدمة لأسيادها في واشنطن وتل أبيب، ويعتبرونهم في أدبياتهم المنحطة "ثوارا” من أجل الحرية والديمقراطية.
لأن ما أثار حنق هؤلاء الأقزام هو لماذا لم يتهم حزب الله "إسرائيل” هذه المرة بجريمة اغتيال الشهيد القائد أبو الفقار كما فعل في حالات مماثلة من قبل؟..
والجواب عندهم يكمن في أن الحزب تجنب ذلك لسببين:
* الأول، أن الرواية التي سوّقها الحزب هي أقرب إلى "المناورة” وفق قولهم، لأن أي من فصائل "المعارضة” لم يتبن العملية، وأن كل المعطيات تؤكد عدم قدرة المجموعات المسلحة التي يفصلها 12 كلم عن مطار دمشق على إحداث هذا الخرق الأمني الكبير مع وجود إجراءات أمنية مشددة على امتداد هذه المسافة، كما أن المرصد السوري لحقوق الإنسان أكد أن ما ساقه الحزب عن مسؤولية الجماعات المسلحة "عار عن الصحة جملة وتفصيلا” وفق بيانه، وهو ما بنى عليه بعض الكتبة المأجورين للقول، أن تناقض رواية الحزب مع ما ساقه مقربون منه للإعلام يعزز فرضية "التصفية الداخلية”.. هذا علما أن سماحة السيد سبق وأن أكد ذات خطاب، أن كل ما يُنقل عن الحزب استنادا إلى مصادر مقربة لا صحة له بالمطلق، وأن ما يُعتدّ به في هذا الشأن هو ما يعلنه سماحته شخصيا أو ما يصدر عن الجهات المُخوّلة في الحزب عبر بيانات رسمية.
* الثاني، أن عدم تحميل "إسرائيل” مسؤولية العملية مرده خوف الحزب من فتح جبهة ثانية مع الكيان الصهيوني المجرم بموازاة الجبهة السورية، لأنه يعلم أن الرد حتى لو كان محدودا فستستغله "إسرائيل” لتبرير شن حرب ساحقة ماحقة على الحزب في سورية ولبنان، الأمر الذي سيقلب موازين القوى في المنطقة لغير صالح إيران ومحورها..
لكن ما يغفله تجار الحرف في هذا الباب عن جهل أو قصد، هو أن سماحة السيد أكد في أكثر من خطاب ومناسبة، أن الحزب جاهز لكل الاحتمالات، وأن قتاله للتكفيريين في سورية هو قتال لأدوات "إسرائيل” و”السعودية” بالوكالة، وأنه على أهبة الاستعداد دائما وأبدا لمواجهة كل الاحتمالات في حال قررت "إسرائيل” العدوان، وأن حزب الله الجبار يملك فائضا من القوة والسلاح للجبهتين معا، وأنه في أيّة معركة قادمة لن يكون هناك شيئ اسمه لبنان وسورية وفلسطين والعراق بعد أن تقرر توحيد بندقية المقاومات وساحات المواجهة، وتل أبيب تعرف هذه الحقيقة، وتعرف أن أيّة مغامرة من قبلها ستفجّر المنطقة برمتها وستدفع هي ثمن التفجير من وجودها، وبالتالي، لا يملك هذا الكيان الجبان أن يتخذ قرار الحرب دون ضوء أخضر عسكري وغطاء سياسي أمريكي..
والسؤال الذي يفرض نفسه بالمناسبة هو: هل الظروف اليوم تسمح لـ”إسرائيل” بتنفيذ هذا السيناريو الانتحاري الكارثي؟.. نترك الجواب لإعلام الزيت.
ومهما يكن من أمر، فأصحاب هذه النظرية التي تعبر عن حقد مرضي دفين ورغبة جامحة في أن تتولى "إسرائيل” سحق حزب الله، ينطلقون من تقديرات وهمية تقول بأن حزب الله يوجد في حالة ضعف وإنهاك بعد الاستنزاف الطويل الذي تعرض له في سورية، وأن سمعته اليوم هي في الحضيض إقليميا بعد أن "أوغل كثيرا في الدم السوري” دفاعا عن نظام الأسد "الديكتاتوري”، وأن تصنيفه حزبا "إرهابيا” من قبل الجامعة العربية ومؤتمر منظمة التعاون الإسلامي وبرلمانات الدول العربية أفقده الحاضنة العربية والشعبية التي كان يستند إليها في مواجهته لـ”إسرائيل”، وأن سورية اليوم تحوّلت إلى "مقبرة” لحزب الله كما كانت أفغانستان مقبرة للاتحاد السوفياتي السابق، وأن الخلاف الروسي – الإيراني حول الأولويات في سورية والتنسيق الروسي الإسرائيلي قيّد حرية عمل الحزب وأفقده المبادرة.
أيضا، لا نحتاج للتعليق على هذا الهراء، فجمهور المقاومة وشرفاء العالم يعرفون حقيقة المؤامرة على سورية ومحور المقاومة، ويعرفون حقيقة المشروع الصهيو – أمريكي في المنطقة، ويدركون أبعاد دور الأدوات التخريبية التي تقوم بها ما تسمى بـ”السعودية” بالإضافة إلى قطر وتركيا والأردن وغيرها، لضرب مكامن القوة في الأمة خدمة لأمن واستقرار وازدهار "إسرائيل”، لأن استمرار عروشهم مرهون بأمن هذا السرطان الخبيث المزروع في قلب جغرافية الأمة، ونراهم يسعون جاهدين لتويجه قوة إقليمية دون منازع من خلال التآمر على الدول العربية لتقسيمها وتفتيت جيوشها وتفجير مكونات مجتمعاتها كما نرى ذلك واضحا بأم العين اليوم من خلال التحالف المعلن بين أنظمة العهر الرجعية وتل أبيب.
وواضح أن حزب الله هو العائق الذي يقف حجر عثرة في وجه هذا المشروع، وعجزهم عن مواجهته عسكريا دفعهم للاستثمار في شيطنته إعلاميا لتشويه صورته النظيفة الناصعة، وهم بذلك إنما يحاولون إطفاء نور الله والله مُتمّ لنوره ولو كره المنافقون، والنصر سيكون حليف المقاومة لا محالة لأنه وعد الله لرجاله المخلصين والله لا يخلف وعده، ومن يحارب المقاومة اليوم إنما يحارب الله والذين آمنوا، وبالتالي فحربهم العبثية خاسرة مسبقا وحصادها معروف، لأن لا شيئ يمكن أن يقف في وجه سنن الله في خلقه، ولا أحد يستطيع أن يتصرف من خارج إرادة الله ومشيئته.
أما جمهور المقاومة ومناصريها وكل شرفاء العالم المدافعين عنها، فقد صدّقوا بيقين ما قاله حزب الله في بيانه جملة وتفصيلا، ولا يخامرهم أدنى شك في ما جاء فيه من معطيات ترقى لمرتبة الحقائق المطلقة، ولا يمكن دحضها أو التشكيك فيها بكل آليات الكذب وأدوات التزوير والتحوير، لأن من تفيض روحه بنور المقاومة يكون مُحصّنا ضد كل فيروسات التعمية والتضليل.
هذا من جهة.. أما من جهة ثانية، فلسنا أغبياء لنصدق أن حزب الله يمكن أن يناور في قضية حساسة كهذه، لسبب بسيط جدا لا يخفى على هواة السياسة فأحرى المحترفين، وهو أن "إسرائيل” التي تتعامل مع حزب الله بعقلانية ستكون أول من يغتنم الفرصة لتكذيبه ودحض بيانه لإثبات أن حزب الله الذي بنى سمعته الطيبة على الصدق في الخطاب والوفاء بالعمل، ويتمتع بمصداقية عالية يشهد له بها العدو قبل الصديق لم يعد كذلك، وهذه فرصة ذهبية طالما تمنت "إسرائيل” حصولها لتدمير مصداقيته، لكنها تعرف أن الحزب أشرف من أن يسقط في هكذا فخ لا يمكن أن يقع فيه إلا الأغبياء من العربان أمثال كتبة إعلام الزيت الوهابي الذين يفكرون بمنطق البقر.
وحتى نقرب لهم الصورة أكثر ونساعد عقولهم البدائية الخاملة على التفكير وفهم المقلب الذي سقطوا فيه كدواب ضالة، يكفي أن نذكرهم إن نفعت الذكرى، أنه لو كانت "إسرائيل” هي الفاعلة، لكانت حرّكت قواتها قبل العملية على طول الحدود السورية واللبنانية تحسبا للرد، لكنها لم تفعل لسبب بديهي لا يحتاج كثير ذكاء لإدراكه، وهو أنها لم تنفذ عملية الاغتيال مباشرة، لذلك كانت مطمئنة كل الاطمئنان أن حزب الله لن يتهمها، وإن كانت الجريمة في حد ذاتها تخدم مصلحتها وتشفي غليلها لما لها من حسابات مُعلقة مع القائد الشهيد أبو الفقار..
والدرس الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الواقعة الجديدة، هو أن حزب الله لا يتبدل ولا يتغير، ويتعامل مع المستجدات مهما كان حجمها ودرجة خطورتها بصدق وشفافية وشجاعة وحرفية عالية، ولا يبني استنتاجاته على أساس اتهامات سياسية رخيصة يوزعها يمينا ويسارا دون حُجّة أو بيّنة مُقنعة كما هو حال أقزام إعلام البيترودولار..
ولكم في قضية اغتيال الشهيد رفيق الحريري العبرة يا عقول البقــر.
رحم الله الشهيد القائد مصطفى بدر الدين على ما قدمه من تضحيات جسام للأمة العربية والإسلامية، ومبارك لحزب الله هذا الدم الطاهر الجديد الذي سال على شام الأنبياء المقدسة، ليزهر نصرا عظيما مظفرا على طواغيت العصر وخوارج الزمان ولو بعد حين.