kayhan.ir

رمز الخبر: 38851
تأريخ النشر : 2016May20 - 20:14

تقسيم المقسّم علامة نجاح أم فشل؟


ناصر قنديل

- يتوقف تقييم اللحظة الاستراتيجية لمشاريع التقسيم الجديدة، وما تمثله من مشروع هجومي نابع من مصادر قوة صاعدة يحملها ويملكها المشروع الغربي، أم كونها مشاريع دفاعية ناتجة عن بدء أفول هذا المشروع وتلمّسه نقاط ضعفه وفشل سياساته، على تقييم ما إذا كان السعي لتقسيم الكيانات التي نتجت عن اتفاقية سايكس بيكو وتحوّلت أوطاناً لأهلها، تحمل صفة دولتهم الوطنية، هو علامة على رضا أصحاب مشروع الهيمنة الأجنبية على بلاد الشرق عن نتائج ما فعلوه قبل مئة عام ونيّتهم التقدّم خطوة إضافية إلى الأمام، لمزيد من التفتيت والهيمنة، أم أنّ الذهاب لتقسيم المقسّم هو نتاج يقين وتقدير بالعجز عن تحمّل تبعات فشل صيغة سايكس بيكو بحفظ المصالح الغربية وتحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها، والسعي بالتالي إلى بدائل أكثر قدرة على تحقيق هذه الأهداف.

- من الواضح أنّ ثلاثة أهداف حاسمة على الأقلّ أريدَ تحقيقها من صيغة سايكس بيكو، الأول في بنية الاتفاقية التقسيمية لسورية الطبيعية والتاريخية، بما يرتبه التقسيم مقابل ما يمكن أن يترتب على الوحدة، من نتائج سياسية واقتصادية وعسكرية واستراتيجية وجيوسياسية، فولادة كيان سياسي يوحّد شعوب ومقدّرات هذا المدى الجغرافي والاقتصادي والسكاني، تعني ولادة قوة جذب وكوكبة في كلّ الشرق الأوسط، تغيّر وجهته ومكانته ودوره في العالم، وتفرض إيقاعاً نوعياً جديداً على العالم، وبالتأكيد لا مكان مع كيان سوري موحّد من حدود تركيا وحدود إيران إلى البحر المتوسط وحدود مصر والصحراء السعودية، لقيام مشروع استيطاني صهيوني في فلسطين، بل دينامية تحرّرية ستنتج وحدة عربية أشمل، وتبني قوة اقتصادية واستراتيجية عملاقة تعادل مقدّرات الدول العظمى. أما الهدف الثاني فهو الحؤول دون ولادة دول قوية متماسكة تحمل مشروعاً نهضوياً قادراً، بين الكيانات الناتجة عن التقسيم الذي تضمّنته الاتفاقية، لأنّ نهوض دولة من هذا الطراز سوف يستقطب جوارها ونخبه وشعوبه، ويجعلها دولة مركز قادرة على القيادة ولو عبر الحدود، إنْ لم تفلح بكسرها نحو المشروع الوحدوي، وسيسقط الرهان على التوازنات الديمغرافية الهشة التي جرى اعتمادها في بنية الكيانات لتكون العصبيات الطائفية والاتنية في حال صحوة دائمة في وجه أيّ حسّ وطني أو مدني أو دولتي والحرب الأهلية دائماً جمر تحت الرماد. أما الهدف الثالث فيبقى مرتبطاً عضوياً بوظيفة التقسيم الذي حملته سايكس بيكو في ضمان أمن الكيان الوليد فوق تراب فلسطين، بمنع تبلور إرادة مواجهة معه، وإسقاط أيّ فرص لتعريض أمنه للخطر، والرهان على تناقضات الكيانات الوليدة من التقسيم وتناقضات مكوّناتها الداخلية على خلق حلفاء لهذا الكيان، ونجاحه بإدارة صراعاتها، والتحوّل بقوة هذه المعادلة إلى القوة الحاكمة والحاسمة في الشرق الأوسط ما بعد خروج الجيوش الأجنبية.

- تقول تجربة قرن مع سايكس بيكو إنّ التقسيم ونشأة الكيانات الجديدة نجحا في إطلاق الهويات الوطنية لأهل الكيانات، لكنها لم تنجح في قتل الروح القومية الوحدوية التي ظلت تطلّ برأسها عبر تشكيل ونمو أحزاب عابرة للحدود، كان أبرزها الحزبان الكبيران ودورهما البارز في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي أيّ غداة خروج المستعمر، وهما حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي، إضافة إلى نشوء مصالحات فكرية وسياسية لدى نخب كثيرة في الكيانات الناتجة عن التقسيم بين الهوية الوطنية والهوية القومية، ونشوء تيارات شعبية تتأثر وتتفاعل مع الدعوات القومية الآتية عبر الحدود، خصوصاً ما لعبته تجربة جمال عبد الناصر في الستينيات، وتجربة المقاومة الفلسطينية في السبعينيات، وكذلك ما صار جامعاً مع إيقاع منطق نشوء الكيانات الكبرى في العالم مع ولادة الاتحاد الأوروبي من حاجة كيانات المنطقة للتكامل ولو بصيغ عابرة للحدود إنْ لم تكن كاسرة لها، وصولاً إلى تقدّم الرئيس السوري بشار الأسد بالدعوة لمنظومة البحار الخمسة لجمع اقتصادي أمني للدول المطلة على البحار الأسود والأحمر والمتوسط ومعها الخليج الفارسي وبحر قزوين، بحيث بدت صيغة سايكس بيكو التقسيمية شيئاً قد انتهت صلاحيته وصار تجاوزه مسألة زمن، إلى الأمام وإلا فإلى الوراء إذا كان ذلك ممكناً.

- بقوة تتخطى قوة الضعف الذي آلت إليه صيغة التقسيم، في إضعاف فكرة الوحدة، ظهر الفشل في منع ولادة مفهوم الدولة القوية والمدنية العابرة للمكونات والعصبيات، والقادرة على تقديم نموذج جاذب وفاعل، فقد نجحت سورية ككيان بالتحوّل إلى دولة محورية في أحداث الشرق، منذ السبعينات وقيادتها لحرب تشرين بوجه «إسرائيل»، لكن وهنا الخطورة على نتائج سايكس بيكو أنها تبلورت كمركز قومي عابر للحدود تصبو إليه عيون اللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين والكويتيين والأدرنيين في محنهم ومعاناتهم، فالأردنيون عندما عانوا أزمات القمح والمياه تطلعوا إلى سورية، والكويتيون عندما أصيبوا بتهديد العراق لكيانهم لجأوا إلى سورية، والعراقيون عندما تمّ غزو بلدهم وجدوا في سورية وطناً ثانياَ، واللبنانيون بتنوّع خياراتهم ومكوناتهم تطلعوا إلى سورية منقذاً وسنداً، وملاذاً، والفلسطينيون لم يعاملوا في بلد عربي كما يعاملون في سورية، ولم تنل قضيتهم مكانة كالتي تنالها في سورية، وفي سورية نجحت دولة بمقدّرات طبيعية واقتصادية متواضعة ببناء نموذج اقتصادي اجتماعي قادر على تأمين الاكتفاء الذاتي، والتخفّف من أعباء الديون، وتقديم التعليم والطبابة مجاناً، وتوفير بنى تحتية حديثة، وبناء جيش قوي، والتمسك بنموذج مدني عصري للدولة، والحفاظ على ثوابت تتخطى حسابات كيان لتكون حسابات أمة خصوصاً بمفهوم الأمن القومي وكيفية مقاربته.

- في البعد الثالث لوظيفة سايكس بيكو كان الفشل أشدّ وقعاً، فأمن «إسرائيل» الذي تفوّق في عقدين متتاليين أصيب في السبعينيات مع حرب تشرين إصابة بالغة، بتقدّم أول جيش عربي لتحدّي جيش الكيان بالقدرة على خوض حرب، وبعد كامب ديفيد واجتياح لبنان نشأت مقاومة لبنانية بدعم ومؤازرة ورعاية من سورية، وشكل انتصار الثورة الإيرانية فرصة عوّضت غياب مصر لنصرة المقاومة وسورية معاً، وتشكيل محور قوة بات مع انتصارات المقاومة، مصدر تهديد وجودي للكيان الذي يفترض أنّ وظيفة سايكس بيكو توفير بيئة آمنة لبقائه وديمومته، وكانت الهزيمة المدوية لـ»إسرائيل» في حرب تموز 2006، مفصلاً حاسماً في قياس النجاح والفشل في قدرة سايكس بيكو على تحقيق أهدافها، خصوصاً مع ثبات حقيقة أنّ حيوية الشعب الفلسطيني وتضحياته ومواصلته مسيرة المقاومة بأسماء وأشكال متعدّدة، قادرة على إلهام شعوب المنطقة واستنفارها وإنزالها إلى الشوارع بهوية قومية موحدة عابرة للانقسامات.

- وفقاً للاجتماع الذي عقده حلف الأطلسي في فرانكفورت في تشرين الثاني 2010 تحت شعار وضع استراتيجية جديدة، فإنّ اللا استقرار في الشرق الأوسط وما يشكله من مخاطر على مصالح دول الحلف وأمن «إسرائيل» يفتحان الباب للبحث ببدائل عن سايكس بيكو، ووفقاً لهذا الاجتماع كلفت لجنة حكماء برئاسة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت لوضع البدائل، ومن خيارات هذه اللجنة كان مشروع برنارد لويس بتقسيم المقسّم واللجوء إلى خطوط الديمغرافيا في رسم الجغرافيا، فهل نجح المشروع؟ وهل يملك شروط النجاح؟ والأهمّ هل يحقق ضمان المصالح التي فشلت سايكس بيكو بضمانها، ويقتل الروح التي فشلت سايكس بيكو بقتلها، أم ستقتله هذه الروح وتنتصر؟ والأهمّ من المهمّ، ماذا عما يُقال من أنّ التقسيم الجديد بدءاً من سورية التي استحقت الحرب عليها لأنها شكلت بنهضتها مقتل سايكس بيكو، يحظى بقدر من القبول الروسي؟