الفلسطينيون امام اختبار تحويل التهديد الى فرصة
حسان ابراهيم
كان لافتا في الايام القليلة الماضية، ان تلهث تل ابيب وراء وقف اطلاق للنار، في حين يرفض الفلسطينيون ذلك ما لم تتحقق شروطهم، اذ لا يمكن ان يمرر القادة الفلسطينيون، وتحديدا القادة العسكريون في المقاومة، كل تضحيات الايام الخمس الاخيرة وربما الايام التي ستليها، وايضا ما سبقها من اعتداءات وتضحيات جرائها بدأت مع عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة، من دون اثمان يجبوها من الاحتلال، ومن دون مكاسب سياسية يستفيد منها سكان القطاع لفترة زمنية طويلة، في ظل الحصار المطبق عليهم، طوال السنوات القليلة الماضية.
الواقع الفعلي الحالي يشير الى الآتي: الاحتلال يلهث وراء التهدئة، بلا دفع اثمان سياسية، رغم كل المواقف والتصريحات المتشددة التي تصدر عن قادة الاحتلال، بينما الفلسطينيون في معركة مع ذاتهم ومع عدوهم، في تحويل التهديد الى فرصة، تنهي الحصار الجائر عليهم عربيا واسرائيليا، او ما يقرب منه.
وكما هي عادة الاحتلال في حالات المواجهة، فان معظم الاعلام العبري ينشر ويحلل وفقا للقواعد الموضوعة من قبل الرقابة العسكرية، وللأسف، ينقل الاعلام العربي عنه وفقا لترجمة حرفية مع شبه تبني للمقاربة، والمتركزة اساسا في اتجاهين اثنين: التصويب باتجاه حركة حماس تحديدا، دون الفصائل الفلسطينية المقاومة في القطاع، باعتبار ان اسرائيل تخوض المواجهة معها دون غيرها، وثانيا التركيز على واقع مغلوط حول انهاك المقاومين، وان المعركة مستمرة حتى استسلامهم الفعلي، الذي بات قريبا جدا. هذه المقاربة المشبعة بالمغالطات، وضعت الجمهور الاسرائيلي في فترة انتظار للبشرى السارة، وهي استسلام غزة، بلا قيد او شرط، لكن كما حصل في العام 2006، سيكون الاحباط وخيبة الامل، مواز ان لم يكن اكثر، للامل والنتيجة المتوقعة بالانتصار الساحق.
اليوم شبيه بالامس، مع الفوارق بالتأكيد، لجهة الامكانات والدعم اللوجستي الذي قدمته سوريا في وجه الاحتلال. لكن الشبه لا يفرق كثيرا مع تكالب العرب وتوافقهم مع العدوان. في حينه، في العام 2006، كان الجمهور الاسرائيلي ينتظر ايضا في الايام الاولى للحرب على حزب الله، ان يعلن الحزب استسلامه في اي لحظة. المقاربة الاعلامية الموجهة من قبل الرقابة العسكرية، شبيهة بالمقاربة الحالية: الصبر والانتظار الى حين اعلان امين عام حزب الله استسلامه.
صمود المقاومين في لبنان عام 2006، في وجه الضربات الجوية الاولى، وتواصل اطلاق الصواريخ على الاحتلال بوتيرة لم تتغير، اصاب قادة تل ابيب بالاحباط، فكانوا امام خيارين اثنين، اما استمرار المعركة على ما هي عليه، والخسارة بالنقاط، او الدخول البري لانهاء حزب الله دفعة واحدة.
كانت الظروف كما رأتها تل ابيب مؤاتية جدا. اوهمت نفسها وظنت ابتداءا ان حزب الله قد انهك ميدانيا بفعل الضربات الجوية، ومن ثم كانت واشنطن تدفع دفعا لانهاء المعركة والدخول البري وتسوية الامور في لبنان، ومنه باتجاه سوريا والشرق الاوسط، كما كانت دول الاعتدال العربي تحث على نفس الشيء. الاغراء كان كبيرا، الى ان قرر الاحتلال الدخول بريا، وكانت الكارثة على جنوده.
تعلمت اسرائيل الدرس. وتعلمته جيدا. فهي الان لا تطرح اي شرط لانهاء المواجهة، على شاكلة انهاء حزب الله واجتثاثه وتسليم سلاحه وايجاد منظومة سياسية في لبنان تتوافق مع مصالحها، وجر امينه العام للمحاكمة، وغيرها من الشروط. لا يريد احد من قادة تل ابيب ان يحاسب لاحقا بناء على الاهداف التي رسمها للمواجهة، ولا ان يجري قياس النتائج على هذه الاهداف. فكان القرار الاسرائيلي المعلن رسميا، منذ اليوم الاول للمعركة: تل ابيب لا تريد الا الهدوء الامني ووقف اطلاق النار مع القطاع.
الى الان، ورغم كل الصعاب والالام الفلسطينية، يوجد نوع من التعادل بين الجانبين. والى الان، لم تستطع اسرائيل رغم كل جرائمها في الايام الماضية، ان تكسر ارادة المقاومين. واذا كان اليأس لم يتغلغل بشكل كامل في وعي الاسرائيليين، حول عدم القدرة على دفع الفلسطينيين للاستسلام عبر الضربات الجوية، الا ان اشاراته بدأت ترد، وبدأت الاصوات ترتفع بضرورة دراسة المطالب الفلسطينية، وتلبية ما يمكن ان يلبى.
في موازاة ذلك، يقف الاسرائيلي الان، امام خيارين اثنين، شبيهين بخيارات عام 2006، بعد ان استنفد الخيار العسكري الجوي كل اهدافه: اما التوقف والبحث عن وسيط يخرج اسرائيل والفلسطينيين من خلال تفاهمات جديدة تجري التسوية عليها، وبالتالي شبه اعلان لانتصار الفلسطينيين بالنقاط وريما اكثر، وأما الدخول البري، الذي لا تحمد عقباه، والذي قد يجر نتائج سلبية اكثر بكثير من التفاهمات الممكن احرازها مع الفلسطينيين عبر وسطاء. وهذا الواقع يسميه عدد من الخبراء والمحللين الاسرائيليين بالمعضلة: الاختيار بين خيار سيء وخيار سيء.
الواضح الى الان، ان تل ابيب ادركت بان مطلب الهدوء مقابل هدوء، مطلب لا يضغط على المقاومين، بل يدفعهم الى التشدد اكثر. من هنا جاءت تصريحات قادة العدو في اليوم الثالث للمعركة، بان تل ابيب لا تريد وقف اطلاق النار، بل مواصلة العملية حتى انهاك حماس اكثر. وهذه المقاربة التي لا تزيد شيئا كأهداف يحاسب عليها قادة العدو لاحقا وفقا للنتائج المحققة، الا انها في نفس الوقت تعني طلب اكثر مما الهدف الحقيقي، كي تحصل على الطلب المراد الوصول اليه، وهو الهدوء الامني فقط، كما انها تشكل مطلبا تخويفيا للمقاومة، قد تدفعها الى تليين مواقفها، بحسب الامال الاسرائيلية.
لكن الى اين تسير الامور؟ سؤال يكتنفه غموض، لكن الاجابة عليه ليست ضبابية بالكامل. قد تواصل تل ابيب المواجهة العسكرية، كما هي عليه الان، اياما اخرى، عل ذلك يدفع المقاومين للاستسلام تحقيقا للهدوء مقابل الهدوء، بما يعرف اسرائيليا: ايلام المقاومة حتى الاستسلام. لكن كما يتبين، فان الهدف، متعذر.
تعذر هذا الهدف، قد يدفع الاحتلال الى مزيد من الضغط، ليس باتجاه العملية العسكرية البرية الكبرى التي تهدد بها، بل بعملية برية رمزية، تهدف الى استعراض القوة، علها ايضا تنفع في تخويف الفلسطينيين، ودفعهم الى الاستسلام.
مع ذلك، يمكن التأكيد ان لا عملية برية كما يشيع الاسرائيليون، وفي اللحظة التي يدركون فيها انه لا مناص منها، وان كل شيء دونها لم يعد ذي جدوى، فسوف ينكسر الموقف الاسرائيلي، ويبحث عن تسوية ما. لكن هل يندفع الاسرائيلي الان، وفقا لتقديراته المسبقة بان كل هذه الخطوات لا تجدي نفعا؟ سؤال مرتبط بمدى رعونة صاحب القرار في تل ابيب، فإما ان يستجيب الان، واما ان يؤجل ذلك، مع استجابة بدفع اثمان اكثر.
هذا الحل، بمعنى التسوية، بدأ يتغلغل في الوعي الاسرائيلي، وبدأت قراءة المحللين تعبر عنه. القناة العاشرة العبرية في تقريرها في نشرتها الرئيسية، اشارت الى هذا المنحى بسؤال محللها للشؤون السياسية: طالما انه لا جدية في الدخول البري، وطالما انه لا يمكن التوصل الى تفاهم ضمن صيغة هدوء مقابل هدوء، وطالما ان الفلسطيني لا يرضى بوقف اطلاق النار من دون تفاهمات، فالاولى ان يصار الى درس المطالب الفلسطينية، ومنها ما يمكن بالفعل تمريره، اذ يمكن لتل ابيب ان تطلق سراح المئات من المعتقلين لديها من اسرى محررين في صفقة شاليط، شريطة انهم لم يكونوا قد خالفوا شروط الصفقة في حينه، والابقاء فقط على بضعة اسرى مما خالفوا هذه الشروط، كما انه بامكان اسرائيل ان توافق على فتح معبر رفح او غيره، وتسليمه للسلطة الفلسطينية وليس لحركة حماس.. وغيرها من الشروط الموضوعة من قبل الفلسطينيين.
بدء بينة تليين الموقف الاسرائيلي قد برزت بالفعل، وبالتالي على الفلسطينيين الصمود اكثر، واذا ما استطاعوا ان يفهموا الاحتلال بان مواصلة الهجمات لا تدفعهم الى الاستسلام، فلا بد له من البحث عن صيغة ما، صيغة تكفل بان لا ترجع الامور الى ما كانت عليه قبل الاعتداءات الحالية، وفي مقدمة ذلك الحصار، أي فك الحصار بصورة او بأخرى عن قطاع غزة.
اذا المعركة الان هي في صبر الفلسطينيين اكثر، ولا احد يتصور ان ما جرى تقديمه من تضحيات لا يستأهل ذلك.