حلب ام المعارك العسكرية وبوابة الحل السياسي
سركيس ابو زيد
بعد المنحى الايجابي الذي خيم على الملف السوري ميدانيا وسياسياً، برزت مؤخرا حالات مقلقة . المفاوضات في جنيف تعثرت والوفد الرئيسي للمعارضة علّق مشاركته، الهدنة انهارت أيضا بطريقة دراماتيكية في حلب وريفها، تركيا رفعت حجم ومستوى دعمها لفصائل المعارضة. إيران دفعت بتعزيزات الى الميدان السوري . في المقابل شككت أميركا في نوايا بوتين وما إذا كان يستخدم المفاوضات لإخفاء دعم عسكري جديد للنظام السوري، وروسيا ارتابت أيضا من أوباما بسبب التفاهم الجانبي الذي أبرمه مع أردوغان.
هذا التغيير من جانب الأميركيين أرجعه مراقبون إلى حسابات وأسباب مرتبطة بالوضع الأميركي الداخلي والانتخابات الرئاسية، الأمر الذي أدى الى التزام غير كامل بالتفاهمات المبرمة مع الروس الذين يدرسون كيفية التعامل مع الوضع المستجد ويتشاورون مع الإيرانيين الذين ارسلوا وفدا عسكريا الى موسكو برئاسة وزير الدفاع. كما بدأ الروس يبدون تشدداً في موضوع المفاوضات وإدخال تعديل على وفد المعارضة المفاوض وإلحاق جيش الإسلام وأحرار الشام بـ"داعش" و"النصرة" كتنظيمين إرهابيين، والتشدد أيضا على الأرض من خلال العودة الى التفكير بالخيارات العسكرية .
هذا التدهور بالملف السوري جاء بعد تطورات أوحت بإمكانية الانتقال من المسار العسكري الى المسار السياسي، وأن ظروف الحل السياسي قد نضجت بعد قيام تفاهمات أميركية - روسية (كيري- لافروف) متكئة على أول قرار دولي يصدر في شأن سوريا (قرار مجلس الأمن رقم 2254 )، أعلنت وقتها روسيا انسحابا جزئيا وتقليصا لقواتها الجوية، متزامناً مع انطلاق مفاوضات "جنيف 3". كما أعلنت هدنة شاملة تحت عنوان وقف العمليات العسكرية، وجرى تطبيق هذه الهدنة على نطاق واسع ومعقول وصمدت لأسابيع، مما أتاح إدخال مساعدات إنسانية من جهة وتعزيز فرص العملية السياسية من جهة ثانية...
هنا، نتساءل عن أسباب هذا التغيير، ماذا حصل كي يحدث هذا التحول في الأجواء ويتم "استئناف الحرب" في سوريا؟!
مصادر مطلعة تحدثت عن حدوث اختلاف بين القوى الفاعلة : الروس تقدمت لديهم الحسابات السياسية على "العسكرية". وأعطوا أولوية للعملية السياسية في جنيف معتبرين أن تدخلهم العسكري حقق ما يكفي على الأرض من أوضاع داعمة لرؤيتهم وخطتهم للحل السياسي، وأنهم نجحوا في استقدام الأميركيين الى "سقفهم السياسي"، ولابأس إن سايروهم في مطلبهم الداعي الى تهدئة اللعبة مع تركيا وعدم الوصول معها الى تصادم. وهذا ما فرض عليهم تحويل مسرح العمليات من حلب الى تدمر حيث القتال ضد "داعش" ، الأمر الذي لا يعد انتهاكا للهدنة ومتفق عليه مع الأميركيين...
فسقوط تدمر لم يشكل تطورا استراتيجيا وإنما كانت له قيمة رمزية ومعنوية. وقد أدى الى إنعاش معنويات الجيش السوري والى حصول ترحيب دولي بهذا الإنجاز الذي استعاد مدينة تاريخية أثرية وكان خطوة في الاتجاه الصحيح "ضد داعش، كما أدى سقوط "القريتين" في ريف حمص الشرقي، الى تعزيز الموقع التفاوضي للنظام على طاولة جنيف، وتحديدا ما يتعلق بطبيعة المرحلة الانتقالية وإبقاء مسألة الرئيس الأسد خارج التفاوض. لذلك أراد الجيش السوري مع حلفائه تثمير معركة تدمر ومواصلة الهجوم في اتجاه دير الزور القريبة من الحدود العراقية، لكن الروس لم يجاروا هذا التوجه انسجاما مع توجه أميركي غير راغب في فتح ملف الحدود السورية العراقية في هذه المرحلة، وفي إعطاء النظام السوري مكاسب إضافية...
حلب بين الحل السياسي والتصعيد العسكري
ي المقابل استفادت المعارضة من الهدنة لإعادة تنظيم صفوفها والحصول على أسلحة نوعية وشن هجوم مضاد لاستعادة ما فقدته بعد التدخل الروسي، ومن جهة ثانية، كانت واشنطن تفتح خطا جانبيا مع أنقرة وتتفق معها على الحد من دور الأكراد العسكري وعلى منعهم من ربط منطقتهم الحدودية مقابل أن تتولى تركيا دورا فاعلاً في محاربة "داعش" عبر فصائل إسلامية وتركمانية موالية لها، ولهذا فإن معركة أردوغان ضد "الكردستاني" في رأيه لا تنفصل عن موقف تركيا من "حزب الاتحاد الديموقراطي" في سوريا. فإعطاء دورأساسي لأكراد سوريا ضد "داعش" يعزز "حزب العمال الكردستاني"، وهو ما لا تريده تركيا.
لذلك حاولت أنقرة استغلال الوضع لصالحها، وكان ذلك واضحاً عبر تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي أعلن أن:" تركيا اتفقت مع الولايات المتحدة على نشر بطاريات صواريخ أميركية مضادة للصواريخ على حدودها مع سوريا خلال شهر أيار المقبل، لمواجهة عمليات القصف المتكررة التي يقوم بها تنظيم "داعش" وتستهدف الأراضي التركية." كما أكد على ضرورة دعم المعارضة المعتدلة للقضاء على "داعش" من خلال تقديم دعم جوي وبري عبر الحدود التركية للمعارضة السورية المعتدلة". وفيما يخص المنطقة الآمنة قال:"إن أوباما صرح أخيراً بأنه لا يعارض فكرة المنطقة الآمنة، وألمانيا توافقنا الرأي في هذا الإطار، بات هناك تفهم أن تركيا على حق في ما يخص المنطقة الآمنة والموضوع السوري، لكن لم يفهموا ذلك إلا أخيرا".
من هنا يبدو واضحا أن واشنطن تريد إقامة توازن جديد على الأرض يكبح جماح الرئيس الأسد ويحد من الشروط الروسية في التسوية، فأوباما يريد قبل مغادرته البيت الأبيض أن يجمد الوضع في سوريا على قاعدة مقبولة، أكثر مراعاة لمصالح واشنطن وحلفائها وأقل خضوعا للشروط الروسية، بعدما تأكد له أن التوصل الى حل سياسي في الفترة المتبقية من عهده لم يعد ممكنا...
هذا الانطباع السلبي الذي خيم على الأزمة السورية دفع مسؤولين غربيين إلى الاعلان، عن "تلاشي التفاؤل الذي كان سائداً في بداية العام على الجبهات الثلاث: الإنسانية، العسكرية، السياسية" بسبب تراجع ادخال المساعدات الانسانية الى المناطق المحاصرة وخروق الهدنة وتصعيد العمليات العسكرية وإعلان مسؤولين سوريين بدعم روسي نية "تحرير حلب"، اضافة الى انسداد مفاوضات السلام وانسحاب تدريجي لوفد "الهيئة التفاوضية" من جنيف.
لذلك سعت باريس إلى محاولة العمل على إقناع المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات بالعودة إلى طاولة المحادثات، لأن غيابها يستغله النظام وتستغله المجموعات الأخرى الموجودة في جنيف".
من جهة اخرى يتجه التركيز الغربي – الإقليمي العام نحو انتظار الإدارة الأميركية الجديدة خصوصاً أن بعض هذه الدول "فقد الأمل" من أوباما، على عقد مؤتمر "المجموعة الدولية" لإعادة الروح الى الهدنة واستعادة التسهيلات امام ادخال المساعدات الى المناطق المحاصرة، اضافة الى الاتفاق على مبادئ سياسية و"نماذج للانتقال السياسي" بحيث توضع على طاولة المفاوضين السوريين في جنيف في النصف الثاني من أيار المقبل.
وحسب أوساط متابعة للوضع الميداني في سوريا، فإن الاستعدادات الهائلة التي قامت بها الأطراف الحليفة للجيش السوري من قوات إيرانية وحزب الله وعراقيين، والمدعومة بالطائرات والسلاح الجديد والدقيق من روسيا، توحي بأن هذه الأطراف تستعد لمعركة كسر عظم في المرحلة المقبلة. فالروسي لم يكن مستعجلا استئناف الحرب. لأنه خلال الفترة الماضية حاول جذب دول خليجية وجماعات سنية والكرد الى جانبه لكن الوضع بات ملحاً الآن. لأن موسكو وحلفاءها شعروا بأن ثمة فخاً كان يراد نصبه لهم. وذلك وفق معلومات دقيقة وردت إليهم بأن الهدف الغربي والخليجي كان تحرير الموصل ورمي كل الإرهابيين في المناطق السورية المحاذية. فيجد الروسي نفسه متورطا في حرب تقارب أتون أفغانستان بالنسبة للسوفيات.
في النهاية الوضع في سوريا يزداد صعوبةً وتعقيداً، وعاد مجدداً الى أتون الحرب، بعد انهيار الهدنة التي باتت واقعا على الأرض، فكل شيء يوحي بأن العمليات العسكرية القادمة ستكون أكثر عنفا وشراسة من السابق، وستكون حلب "أم المعارك". فلقد تغيرت الآن الاستراتيجيات، ولعل اللقاءات الإيرانية –الروسية- السورية هذه الأيام تحضر لشيء ما. خصوصا إذا ما فشل التفاوض نهائيا قبل رحيل أوباما.