رحيل هيكل: الظاهرة الفريدة والمدرسة في الاعلام والسياسة
بثينة عليق
في عددها الصادر بتاريخ 22 اب 1971 ورد في صحيفة نيويورك تايمز انه من الممكن ان يكون محمد حسنين هيكل اقوى صحفي في العالم . لا ينافي استنتاج الصحيفة الامريكية البارزة الحقيقة. اثبتت التجربة الصحفية والسياسية الطويلة للاستاذ هذا الامر.
فقد استطاع الرجل ان يساهم في تشكيل الوعي السياسي والاتجاه الفكري للملايين من قرائه ومتابعيه على امتداد اكثر من نصف قرن. عاش هيكل ظروفا سمحت له بان يكون شاهدا على احداث ومحطات تاريخية هامة، واستطاع استنادا الى موهبته الكبيرة واطلاعه المدهش واتساع رؤيته ان يشكل ظاهرة في الاعلام العربي وحتى العالمي فريدة من نوعها. لم يدرس هيكل الاعلام. كان طالبا في ادارة الاعمال في الجامعة الاميركية في القاهرة عندما انتسب الى دورة صحفية على يد احد ابرز الصحفيين الاميركيين في ذلك الزمن. بعد ها تدرب على اساليب الصحافة الحديثة في الايجيبشن جازيت. هكذا بدأت مسيرة الرجل الذي استطاع ان يحافظ على مدى نحو خمسة وسبعين عاما على موقعه كاحد ابرز الصحفيين العالميين البارزين.
الظاهرة الفريدة والمدرسة في الاعلام والسياسة: محمد حسنين هيكل
الملاحظ في كتابات الصحفي الكبير انه ينطلق من الوقائع والمعطيات وتفاصيل الاحداث الجارية ويضعها في قوالب منهجية علمية ونظرية.. فقد بدأ عمله مراسلا حربيا في فلسطين في العام 1948 ثم غطى الحرب الاهلية اليونانية وصراعات البلقان وحرب كوريا. الا ان الحدث المفصلي كان تغطيته للصراع على تأميم النفط في ايران في بداية الخمسينات. التجربة المهمة ارخها هيكل في كتابه الاول "ايران فوق بركان ". وقد شكل الكتاب هذا خطوة هيكل الاولى في مسيرة انتقاله من صحفي الى مؤلف كتب ثم الى مؤرخ ومفكر استراتيجي. كما ان تجربته في ايران جعلته احد اكثر الصحفيين العرب معرفة بهذه الدولة الاقليمية الاساسية واحد ابرز الداعين للحوار العربي معها وصولا الى التكامل خاصة بعد انتصار الثورة الاسلامية. وعن هذه الثورة كتب هيكل كتاب مدافع اية الله، احد ابرز الكتب عن تلك المحطة التي غيرت وجه المنطقة. تضمن الكتاب مقابلات مع الامام الخميني في باريس ثم في طهران كما استند فيه الى لقاءات مع الشاه وكبار الضباط والسياسيين الذين لعبوا ادوارا هامة قبل واثناء وبعد الثورة. تضمن الكتاب ايضا مقابلات مع الطلبة الذين دخلوا السفارة الاميركية في طهران. وكشف فيه وثائق واسرارا خاصة حول قضية نادي السفاري الذي تكون عام 1972 بين ايران وفرنسا والسعودية والمغرب في مجال الاستخبارات.
في هذين الكتابين كما في كل مسيرة هيكل الطويلة كان الكاتب العربي الكبير يقدم لقرائه خلاصة جهد يومي متواصل للقراءة والدراسة والبحث لفهم طبيعة القوى والتيارات والاشخاص الذين يصنعون الاحداث. وهو ما حول زاويته الشهيرة في الاهرام " بصراحة" الى نافذة يطل من خلالها قراؤه على حقيقة ما يدور في العالم. اما بالنسبىة لتجربته الغنية الى جانب الرئيس المصري جمال عبد الناصر والتي اثارت الكثير من الجدل حول علاقة الصحفي بالسلطة فقد جعلت من هيكل احد ابرز الشهود على تلك المرحلة خاصة انه كان على اطلاع على دقائق الامور وتفاصيلها في التجربة الناصرية. هذه التجربة ظل هيكل وفيا لها حتى اخر حياته وقد دفع ثمن مواقفه في زمن الرئيس انور السادات الذي ادخله السجن. وقد روى هيكل تفاصيل هذه العلاقة في كتابه الشهير خريف الغضب. الا ان اهم ما في الكتاب انه يقدم قصة بداية ونهاية عصر السادات بدءا من دوره داخل تنظيم الضباط الاحرار وانتهاء بمقتله على المنصة. عن السادات كتب هيكل ايضا ولكن من زاوية حرب اوكتوبر في كتابه "اكتوبر 1973 السلاح والسياسة " وهذا الكتاب هو الجزء الخامس من مجموعة حرب الثلاثين سنة (ملفات السويس، ايام الغليان، الانفجار، الطريق الى رمضان، حرب اوكتوبر) التي تكشف حقيقة ما جرى في الصراع العربي الاسرائيلي منذ الخمسينيات وحتى معركة تشرين التي يعتبرها هيكل معركة قتالية وليست حربا " فالحرب صراع سياسي بكل وسائل القوة ".
في الحقيقة فقد كان الصراع العربي الاسرائيلي موضوعا محوريا لدى هيكل . وقد شكل كتابه "المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل" محاولة جدية لقراءة تاريخ الاتصالات بين العرب والعدو الاسرائيلي من قبل انشاء الكيان، مرورا برفض عبد الناصر لاي مفاوضات مع العدو مقابل قبول السادات بهذا الامر وصولا الى الدور الذي قام به الفلسطينيون في التفاوض ونتائج ما جرى على القضية الفلسطينية. لقد كان موقف هيكل ناقدا بشدة للمفاوضات مع العدو الاسرائيلي وهو قال لصحيفة نيويورك تايمز في ايار 1980 ان "اتفاقية كامب دايفيد تعني ان اكبر دولة عربية مدعومة بتأييد الدول الكبرى اختارت السير في طريق تجاهل التناقض الرئيسي في المنطقة وان ذلك سيقود بحكم طبائع الامور الى فتح الباب امام التناقضات الثانوية وبالتالي الى عدم الاستقرار والفوضى والتوتر والحروب الاهلية والصراعات القطرية والاثنية والطائفية والمذهبية".
استنتاجات هيكل هذه وغيرها من الافكار والقناعات شكلها هيكل من خلال منهجية علمية استندت للتاريخ على اعتباره " ليس علم الماضي وحده وانما هو عن طريق استقراء قوانينه علم الحاضر والمستقبل ايضا اي انه علم ما كان وما هو كائن وما سوف يكون". هكذا كان كل كتاب لهيكل عبارة عن "زيارة جديدة للتاريخ " ينتقل فيها الكاتب البارز بين التاريخ والحاضر ليفسر ما جرى ولماذا جرى وليستشرف المستقبل. اما كتابه المثير والمعنون بـ"زيارة جديدة للتاريخ " فقد قدم مدرسة جديدة وخاصة في عالم الحوارات الصحفية من خلال مقابلات اجراها مع سبع شخصيات ارتبطت بأدوار تاريخية هامة تجاه قضايا عالمية بارزة.
كتاب "حرب الخليج اوهام النصر " جاء في مرحلة عربية حساسة وفيه حلل هيكل الواقع العربي واظهر كيف انه يمر بمرحلة انتقال تاريخية صعبة وقلقة. طرح المفكر المصري معادلات الثروة والفقر والبداوة والحضارة والتقدم والتأخر والتحرر والتبعية والذكاء والغباء والجبن والشجاعة.
والحق يقال ان هيكل كان صحفيا شجاعا . صحيح ان شغف المعرفة والفضول العلمي كانا الصفتين الابرز الا ان محطات كثيرة في حياته المهنية تظهر شجاعة كبيرة وتحديدا امام اغراءات المال الخليجي الذي فتك بالوسط الثقافي والاعلامي العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي. عبر هيكل عن هذه القضية في مقالة كتبها عام 1958 اخذت شكل رسالة للملك سعود بن عبد العزيز قال له فيها: "يا صاحب الجلالة كل الاقلام تحطمت على اعتابك الا هذا القلم". وبالفعل فقد ظل هيكل عصيا امام المال السعودي حتى اخر ايامه.
كما انه واجه كل محاولات تزوير التاريخ والتضليل الثقافي والفكري التي تجند لها كتاب وصحفيون اشترتهم اموال الذهب الاسود. ولا يمكن فصل هذا التوجه لدى هيكل عن الاهمية الكبرى التي يعطيها للذاكرة التاريخية او لما يسميه بالضمير التاريخي والوعي التاريخي. وقد كتب في مقدمة كتاب حرب اوكتوبر ان "فقدان الذاكرة كارثة بلا حدود لانه يودي بكل شيء بما في ذلك التاريخ والمستقبل ومن ثم يصبح الحاضر محاصرا يتم عزله وتطويقه على لوحة زجاج مسطح لا تحتفظ بشيء ولا تعني شيئا" .
ومن الامور التي عنت كثيرا لهيكل " المقاومة " فكرا وممارسة وقد كتب مصطفى فضل النقيب ان هيكل "شكل جسرا يصل بين كل ما هو اصيل وحقيقي وناصع في ايام حركة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات وما هو حقيقي واصيل وناصع في ايام المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق . جسرا يصل ايام المقاومة في 1956 بايام المقاومة في 200، جسرا يصل ايام عبد الناصر بايام حسن نصر الله ".