هل تذكرون البحرين؟
عبدالله زغيب
وحدها البحرين من بين بلدان "الربيع العربي”، حافظت على ما أمكن من نسق شبه مستقر للحراك الشعبي، هناك، تمكنت المعارضة ولخمس سنوات كاملة من إنتاج "حالة ثورية” شبه دائمة، يمكن الركون اليها في سبيل إنتاج قدرة ضغط تستثمر في المخرجات النهائية لأي حل سياسي مهما كان بعيداً، فالمعارضة البحرينية بغالبية تشكيلاتها وبقيادة واضحة المعالم من "جمعية الوفاق”، عكست من خلال ادائها الميداني والإعلامي، إدراكاً قوياً لطبيعة الحراك الجاري في الداخل وفي المحيط، وكذلك طبيعة التناقضات التي تتحكم بالمسار السياسي في البحرين، المرتبط "عضوياً” بالمملكة العربية السعودية. ما يعني ان الانسلاخ النهائي عن النظام الملكي الحاكم في المنامة ومن خلفه نظيره الأكبر في الرياض، لا يمكن ان يشكل مطلباً جدياً، ولن يتجاوز في حال تعميمه كمشروع "وطني”، سوى الشعارات التي قد ينجح بعض الشبان أو لا ينجحون في ايصالها الى ما تبقى من رأي عام إقليمي ودولي متابع لما يجري في المنامة، في ظل الصخب الهائل المحيط بالمملكة الصغيرة، القادم من الاتجاهات كافة.
الخميس الدامي
في السابع عشر من شباط 2011، وبعد مرور أربعة ايام على انطلاق الحراك الجماهيري البحريني، المصاحب للحراك العربي المنطلق من تونس، بدت الصورة أقرب إلى إنتاج نموذج مشابه للحالتين المصرية والتونسية. وبدا البحرينيون اقرب من اي وقت آخر، من اللحظة التي قد تخرج معها الغالبية الساحقة من حالة عدم اليقين التي عاشتها منذ استقلال الدولة عن الاحتلال البريطاني العام 1971، بما تخللها من ضياع في تحديد الهوية الوطنية الحقيقية للبحرين، وكذلك الوجهة النهائية للمشروع الوطني البحريني، وطبيعة الانخراط الكامل في المشروعين الاميركي والسعودي في المنطقة. وهي الحالة التي انتجت فجوة قياسية بين المكون الشعبي الأساسي والعائلة الحاكمة.
يومها، استبشرت المعارضة البحرينية "خيراً وضعفاً”، بعد إعلان الملك حمد بن عيسى آل خليفة عن تشكيل لجنة للتحقيق بمقتل الشاب علي مشيمع في تظاهرات الرابع عشر من شباط في منطقة الديه القريبة من المنامة. ما يفيد بالمعنى السياسي المباشر، أن النظام يظهر تحملاً للمسؤولية بدرجة او بأخرى، وما يعني ايضاً، توجساً حكومياً من تبعات احداث اليوم الاول للحراك. وهو ما دفع بالمعارضة البحرينية الى اتخاذ قرار بالنزول مجدداً الى ميادين الجزيرة الصغيرة، وبالتحديد "ميدان اللؤلؤة”، لكن "الواقعية الخليجية” التي رفضت تحويل البحرين الى امتداد طبيعي لاحتجاجات العام 2011، كان لها رؤية مختلفة تماماً، تنطلق من ضرورة تحييد دول "مجلس التعاون” عما يجري، لمنع تحول المسألة إلى ما يشبه "تفاعلاً متسلسلاً” يمتد الى قلب الرياض قبل غيرها، نظراً للتشابه الهائل في الحالتين الاجتماعية والسياسية الخليجية. وهكذا اتخذ القرار بتحويل "الخطأ القاتل” يوم الرابع عشر من شباط، إلى "قتل موجَّه” يوم السابع عشر منه. فكان الهجوم على المتظاهرين في ذلك اليوم، خاصة في "دوار اللؤلؤة”، من أكثر المظاهر الدموية في عام "الربيع العربي”. واستعملت السلطة البحرينية وقتها مدرعات ودبابات في استعراض واضح لطبيعة القادم من ردّ فعل على ما يحصل في الشارع، ما أدى الى مقتل أربعة ناشطين وهم علي المؤمن ومحمود ابو تاكي وعلي خضير والحاج عيسى عبد الحسن. كما شهدت منطقة القفول غرب العاصمة المنامة مواجهات عنيفة تسببت بأكثر من مئة جريح، فيما سُمّي يومها "الخميس الدامي”.
حال الطوارئ.. و "تطييف” الحراك
منذ ذلك الوقت، انطلقت جردة حساب شاملة وفي دفاتر جميع المنخرطين في المعترك البحريني الجديد. في ما شكلت الايام الاولى للحراك الشعبي، وبالتحديد الايام الاربعة الاولى، نقطة ارتكاز شيّدت عليها غالبية خيارات السنوات المقبلة. فالمعارضة البحرينية بما تمثل من "وليّ” مفترض لدماء المواطنين في الشوارع، قررت القطيعة "النظامية” مع الحكومة، من خلال اعلان جمعية الوفاق المعارضة انسحاب نوابها الـ18 من البرلمان، معتبرة على لسان أحد قيادييها النائب علي الاسود ان "السلطة” تمارس حال طوارئ غير معلنة منذ بداية الحراك. هكذا انتقلت المعارضة، او بالحد الادنى، الشق المنخرط منها في الجهاز الحكومي، الى العمل الميداني المباشر، من خلال التظاهرات والندوات والفعاليات، طالما ان العمل من داخل جهاز الحكم، لم يعد مجدياً بنظرها. على الضفة الاخرى، تزامن التصعيد الامني والعسكري الحكومي، مع تصعيد سياسي موازٍ، من خلال تأكيد وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة بعد لقاء جمعه بنظرائه الخليجيين في المنامة، أن "تحرك” الشرطة كان ضرورياً لمنع انزلاق البلاد إلى "هاوية الطائفية”، قائلاً إن "شيعة البحرين ولاؤهم للبحرين”. وبذلك أطلق بشكل غير مباشر، تصنيفاً "مباشراً” لهوية الحراك بمن فيه من مكونات مجتمعية بحرينية.
"الثورة” في حديقة واشنطن الخلفية
أصبحت الصورة جليّة منذ الايام الاولى انطلاقاً من هذا المسار "المبسط” والواضح، طالما أن التعقيد لم يكن يوما عنصرا اساسيا في طبيعة الخيارات التي تتخذها "النخب” الحاكمة في منطقة الخليج، حيث إن المسألة لن تكون على الشاكلة ذاتها من الانهيار السريع للسلطة، كما حصل في النموذج التونسي، او الانهيار الجزئي، كما حصل في مصر، أو حتى نموذج الفوضى العارمة في ليبيا ثم سوريا. فالمسألة في البحرين مختلفة بشكل جذري، برغم ارتباطها صورياً بما حصل في فترة "الربيع”، حيث إن ارتباطها العضوي في الأساس، هو بمنظومة الامن القومي للمملكة العربية السعودية، أو بشكل عام، "منظومة الأمن الخليجي”، بما يتداخل فيها من عناصر إقليمية وخارجية. وهي بطبيعة الحال لا تخرج عن الإطار الاميركي، بما فيها من مفاعيل ذات تأثير مباشر على مصلحة واشنطن في الخليج، وكذلك مصلحة الحلفاء الغربيين. ما يعني في نهاية المطاف، أن المعارضة البحرينية بحراكها الشعبي، وضعت نفسها في مواجهة مباشرة مع حزمة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية، تتداخل فيها الاعتبارات والمصالح والمشاريع، وبالتالي فإن شعار "يسقط حمد” الأكثر شعبية في تلك الأيام، كان انعكاساً لبساطة التحرك وطبيعة القيمين عليه من معارضين ونشطاء، لكنه اسس مع الوقت لفهم مختلف تماماً، أدى الى تغيير الأداء السياسي وكذلك الشعبي بشكل عام.
حراك اللؤلؤة المغيّب
يظهر الحاضر من حراك شعبي مستمر في البحرين، وعياً لطبيعة الواقع، وقدرة على فهم الممكن والمتاح من خيارات لدى المعارضة البحرينية، أو على الأقل الجزء الأغلب منها، أي ذاك الناشط في محيط جمعية الوفاق بقيادة أمينها العام علي سلمان. فرفع السقف وصولاً الى مطلب إسقاط النظام، لم يكن منطقياً على الإطلاق، خاصة في ظل عجز المعارضة عن تقديم نفسها كحالة "ثورية” تحظى بالتغطية الإعلامية الكافية، لتحويلها نموذجاً أشبه بالمصري أو التونسي. والقول إن السبب كان في صغر مساحة البحرين ومحدودية قدراتها البشرية والاقتصادية، لم يكن منطقياً على الإطلاق. بل إن العكس تماماً، كان السبب المباشر في تحويل "الثورة” البحرينية واحداً من أكثر الأحداث حجباً عن الأخبار في مختلف أنحاء العالم، لما تمتلك من ثقل مركزي يمكن في حال تفشيه، إذا ما استحال مشروعاً ناجحاً، إلى تفتيت البنيان الهشّ القائم بين السلطات الحاكمة ومجتمعاتها في دول "مجلس التعاون”، وبالتحديد في الفترة التي عجز فيها المال عن منح "حمائية” اجتماعية وسياسية للأنظمة الريعية هناك. وهكذا أصبح الحراك في البحرين الغائب الأكبر عن غرف الأخبار الإقليمية والدولية وكذلك عن صالونات ومطابخ السياسة، الأمر لا يتوقف هنا، فبرغم صدور عشرات التقارير الحقوقية الدولية عن الانتهاكات التي تحصل في البحرين، الا انها لم تلاقِ يوماً اهتماماً او حتى تعقيباً وازناً من الادارات الدولية "الصديقة” للمنامة.