العلاقات الروسية ـ التركية.. إلى أين؟
ـ جورج حداد
على خلفية الحرب الدائرة في سوريا والتي أصبحت روسيا تضطلع بالدور المحوري فيها، وبعد قيام الجانب التركي بالمساهمة في جريمة اسقاط الطائرة المدنية الروسية في سيناء، ثم الاسقاط غير المبرر للطائرة المقاتلة الروسية على الحدود السورية ـ التركية، تعمل انقرة المستحيل لاعادة تطبيع العلاقات مع موسكو، وعينها على المستقبل المتمثل في المرحلة القادمة لاستخراج الغاز والنفط من شرقي المتوسط.
روسيا تدير ظهرها نهائيا لتركيا
ويرد دميتريي بسكوف الناطق باسم الكرملين على ذلك بأن أي جهود من هذا النوع هي غير ضرورية. وتركيا لم تقدم حتى اليوم الاعتذار عن عملها العدواني الغادر. وتصريح رئيس الجمهورية التركية رجب طيب اردوغان بأن روسيا تحتل جزءا من الأراضي السورية هو تصريح عبثي. ويقول بسكوف "ان العلاقات بين البلدين هي في أسوأ حال منذ عشرات السنين". "نحن نأسف لهذا الوضع، ولكننا نؤكد من جانبنا ان روسيا ليست هي المسؤولة عن هذا الوضع".
"لقد قامت تركيا بعمل عدائي وغادر ضد روسيا" "ولا تزال تتهرب من تقديم توضيحات كافية حول هذه الاعمال، ولم تقدم الاعتذارات المناسبة". "لهذا من نافل القول ان نتحدث عن أي امكانية لتطبيع العلاقات بين البلدين: كما يؤكد بسكوف.
ومن الملاحظ بوضوح تام ان الطرف الأميركي "يقف على الحياد" ولا ينبس ببنت شفة دفاعا عن الموقف التركي، مع ان اميركا تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، لان الطائرة "التركية" التي استخدمت لاسقاط القاذفة الروسية هي طائرة أميركية الصنع. ومعلوم ان اميركا تضع عادة ضوابط لاستخدام الأسلحة المتطورة التي تسلمها لحلفائها. ويشير هذا الموقف "المحايد" الاميركي الى امرين مهمين:
الأول ـ استخدام أسلحتها، بدون اذن منها، في منازلة الأسلحة الروسية، وهي منازلة لا تريدها اميركا وتخشى عواقبها.
والثاني ـ من خلال المفاوضات المتشعبة حول الازمة المعقدة للشرق الأوسط، توجد محادثات سرية رديفة، ثنائية أميركية ـ روسية، حول مستقبل المنطقة ككل، وخصوصا حول إيجاد الخطوط العريضة لاطار عام حول مستقبل استخراج الغاز والنفط من شرقي المتوسط، والادوار والحصص التي ستعكى لمختلف الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، بما فيها الاتحاد الأوروبي ومجموعة البريكس. ويبدو ان حظوظ تركيا والسعودية ودول الخليج تتضاءل على هذا الصعيد. وأميركا لم تعد تتمسك بها كما في السابق.
كوابيس عثمانية
اما تصريح الرئيس اردوغان ان روسيا تحتل جزءا من الأرض الروسية، فهو تصريح عبثي من الجانب الحقوقي كما من جانب القانون الدولي، لسبب بسيط هو ان القوات الجوية الروسية موجودة على الاراضي السورية بطلب من القيادة الشرعية".
كما يجب الاخذ بالاعتبار انه لا مجال للمقارنة بين القوة العسكرية لتركيا والقوة العسكرية لروسيا، التي تنطلق في استراتيجيتها العسكرية من الأسلحة النووية، والتي ـ بهذه الاسلحة او غيرها ـ تستطيع سحق تركيا وأميركا وكل حلف الناتو عشرات ومئات المرات، يرى بعض المراقبين ان هذا الضبط النفس وطول الاناة الروسيين يدلان ان روسيا تريد "احتواء" تركيا وكسرها على طريقة "كسارة الجوز"، من اجل اخضاعها واستخدام أراضيها لاحقا كمعبر ترانزيت للغاز الروسي الى اوروبا.
وهذا يعني، فيما يعني، تضييق الخناق اقتصاديا وسياسيا على تركيا، وزرع الشقاق بينها وبين الدول العربية الموالية للغرب، وحتى بينها وبين أوروبا وأميركا، وستتم مساعدة الحكومة الشرعية العراقية لطرد القوات التركية من العراق، ومساعدة القيادة الشرعية في سوريا والجيش الوطني السوري لتكبيد تركيا خسائر لا تخطر على بالها اذا أصرت على تطبيق برنامجها لدخول الأراضي السورية بدون موافقة القيادة الشرعية والحلول محل داعش والنصرة بحجة مكافحة الإرهاب.
ويقول بعض الخبراء انهه اذا سمحت تركيا لنفسها بارسال قوات احتلالية الى سوريا، فإنه لن يرجع الى تركيا ولا جندي حي واحد. وانه حتى الاسرى الاتراك (انصار داعش) سيتم تسليمهم الى الفرقة النسائية الكردية لتقرير مصيرهم.
الحرب الاقتصادية
وفي سياق الحرب اقتصادية الروسية على تركيا، صرح سفير الفيديرالية الروسية في انقرة اندريه كارلوف، لوكالة تاس، بأن الخسائر التركية بنتيجة قرارات المقاطعة الاقتصادية الروسية، ستزيد سنة 2016 عن 11 مليار دولار. وأضاف "ان هذا الرقم ليس بروباغندا روسية. بل هو ما توصلت اليه أبحاث مراكز التحليل الاقتصادي المحلية. وبيّن خبراء هذه المراكز ان اكثر الخسائر ستكون في القطاعين السياحي والزراعي. وفي السنوات الأخيرة زار تركيا بشكل متوسط حوالى 4 ملايين سائح سنويا. وبلغ اجمالي التبادل التجاري بين البلدين اكثر من 30 مليار دولار. وبعد ان توقف السياح الروس عن التوجه الى تركيا، عرض فورا للبيع حوالى 500 فندق سياحي.
ووصف السفير العلاقات بين البلدين بأنها في حالة التجميد. وانها لا يمكن استعادتها كما كانت الا اذا غيرت تركيا موقفها. وقال "لقد حدد الرئيس فلاديمير بوتين شرطين لتجاوز الازمة: ان تركيا ملزمة بأن تقدم اعتذارا رسميا عن اسقاط القاذفة الروسية، وان تدفع تعويضا عن الاضرار وتعاقب المسؤولين عن الحادث. ولكن بعد مرور شهرين لم نسمع من تركيا حتى الان اعتذارا واضحا، ولكن بالعكس فإن تركيا تزيد تصريحاتها العسكرية المعادية لروسيا. وانه لكلام عار عن الصحة اتهامنا بخرق المجال الجوي التركي، او ضرب المدنيين في سوريا. وفي مثل هذه الظروف لا أرى أي افق لاعادة تطبيع العلاقات بين البلدين".
وقد أعلنت إدارة السياحة في مدينة انطاليا التركية ان عدد السياح الروس قد انخفض خمسة اضعاف في شهر كانون الثاني الماضي. كما انخفض عدد السياح من مختلف البلدان الأوروبية الأخرى الى انطاليا بنسبة وسطية مقدرها 30%، بسبب التخوف من عواقب توتر العلاقات الروسية ـ التركية. علما ان الدخل السياحي يمثل عاملا اقتصاديا مهما في تركيا لانه يشكل 4،5% من الناتج المحلي القائم ويضطلع بدور كبير في تقليص العجز في ميزان المدفوعات.
الكرملين يشطب تركيا من اجندته
هذا وصرح السكرتير الصحفي للرئيس، دميتريي بسكوف، انه بعد حادث الاسقاط الغادر للطائرة لم يحدث أي اتصال بين الرئيسين بوتين واردوغان، وانه ليس في اجندة الكرملين أي لقاء من هذا النوع.
ونذكّر انه في نهاية شهر كانون الثاني الماضي كان رجب طيب اردوغان عبر عن الرغبة في اجراء لقاء مع الرئيس الروسي. وقد أبلغ بوتين بذلك في حينه، كما يقول بسكوف.
واعلن نائب وزير الدفاع الروسي اناطولي انطونوف ان تركيا كانت تخرق دائما اتفاق الأجواء المفتوحة، وهو ما أوجد مقدمات لحادثة اسقاط الطائرة. ويعني ذلك انه لم تكن تتاح الامكانية للدولتين المشاركتين في الاتفاقية ان تراقب النشاط العسكري احداها للاخرى.
التحضير المسبق للهجوم الغادر
وقبل الهجوم الغادر الذي تعرضت له طائرة سو ـ 24 الروسية، كانت تركيا قد رفضت المذكرة المتعلقة بطلعات الطيران في الأجواء السورية.
ومنذ شباط 2013 اخفى الاتراك عن المراقبة قواعد منظومة الدرع الصاروخية باتريوت في جنوب تركيا. وفي 2014 أعلنت مجموعة من قوات الدعم التركية انه لا يمكن تأمين امن الطيران في بعض قطاعات المجال الجوي للبلاد بسبب كثافة طلعات الطيران الحربي، الذي يعمل في اطار الحملة المعادية للارهاب، حسبما صرح انطونوف لوكالة انباء ريا ـ نوفوستي. وذكر نائب وزير الدفاع الروسي ان تركيا رفضت منذ فترة قريبة ان تقوم طائرة المراقبة AN-20B بطلعة مراقبة فوق الأراضي التركية.
ويتابع انطونوف قائلا انه في كانون الأول الماضي اغلق الاتراك امام الطيران الروسي مراقبة الاجواء التركية على امتداد الحدود مع سوريا.
هذا ويقول الخبراء ان روسيا تنفذ حتى الان المرحلة الأولى من "حرب الإلغاء" ضد تركيا، المتمثلة في "الحرب الاقتصادية".
وفي هذا الصدد قال وزير الصناعة والتجارة الروسي دينيس مانتوروف ان لائحة المقاطعة الروسية للسلع التركية لا نهاية لها، وانه، في الصناعة الخفيفة مثلا، يتم تحديد نسبة المقاطعة ونوعية السلع، حسب حاجات السوق الروسية ومستوى وحجم الصناعات البديلة الروسية. وان هذه العملية هي عملية دائمة ومتجددة. ومنذ البداية جرى منع بعض السلع بنسبة 100% وبعضها الاخر بنسبة 80%.
وقد قام مكتب الرقابة التابع للوزارة بالتفتيش في اكثر من 1300 مكتب سياحي للتأكد من تطبيق قرار منع تنظيم وارسال السياح الى تركيا. كما تتم الملاحقة القضائية للمواقع الالكترونية التي تقوم بتوجيه السياح الروس الى تركيا بطرق خداع ملتوية عبر بلدان ثالثة.
ايران تحل محل تركيا
وفي هذا الوقت قامت بعثة تمثل لجنة العلاقات الدولية في الدوما (البرلمان) الروسية، برئاسة رئيس اللجنة الكسي بوشكوف، بزيارة طهران. واجتمعت البعثة مع الزعيم الديني علي اكبر ولايتي. وتم البحث في افق تطوير العلاقات بين البلدين بعد اسقاط العقوبات عن ايران، وامكانيات حلول ايران محل تركيا في تأمين المتطلبات الروسية ولا سيما في قطاع المنتوجات الزراعية والغذائية.
تعزيز الوجود العسكري الروسي في سوريا
على خط مواز أفادت المعلومات الصحفية ان روسيا تعزز بكثافة حضورها العسكري في سوريا، بالتنسيق مع قوات الجيش الوطني السوري، وانها أرسلت الى سوريا طائرة سوخوي ـ 35 التي تضاهي ارقى واحدث الطائرات الأميركية، وكذلك طائرة هيليكوبتر ميغ ـ 25M ، متعددة المهمات القتالية، وقاتلة الدبابات المعادية، وهو ما سيجعل مهمة قيام السعودية وتركيا بالتحرش بقوات الجيش الوطني السوري والحلول محل داعش والنصرة بحجة مكافحة الإرهاب، مهمة صعبة للغاية بل مستحيلة.