الإمام الخميني وخليفته: ولّى زمن الهزائم
د. محسن صالح
يحتفل الشعب والمؤسّسات والقوّات الحامية للثورة والدولة في إيران بالذكرى الـ37 لقيام الجمهورية الإسلاميّة في إيران. يحتفل مع الجمهوريّة والشعب الإيراني كلّ الشعوب والقوى التي ترى في إيران دولةً صديقةً وسنَدًا مخلِصًا تعتمد عليه. تجربة السنوات هذه أصبحت كافيةً لمراجعة كلّ الأطراف العربيّة والإسلاميّة والدوليّة حساباتها في العلاقة مع إيران (قيادةً وشعبًا). فقد تبيّن أنّ إيران دولةٌ فاعلةٌ في المنطقة وتعيد صناعة تاريخها الحديث.
يكاد التاريخ يذوي بدون فاعلين، ولا يسجّل فيه حدثٌ ولا محرّكٌ ولا دورة حياة، فالتاريخ ليس إلا دورة حياة يصنعها الأقوياء في نفوسهم وعزائمهم. ويكاد العالم الإنساني يذوي من التاريخ بدون قادة، فالتاريخ المدوّن إن هو إلا صياغة عقلٍ وإرادة وحرية. فالقادة دائمًا كانوا صنّاعًا مهرةً للوجود الجماهيري. وإن كان القادة بلا جماهير، كالهواء بلا موجودات تتنشق. فالجماهير (الناس) مشاريع عقل القادة. والقادة سر الثورات، وسر الديانات، والسر في حركة الشعوب والأوطان والأمم. والقادة رموزٌ تفكّر وتحكي وتفعل. والرموز هي حركة العقل، والعواطف، والوجدان في سير الإنسان نحو ذاته... ونحو الآخر، أيًّا كان هذا الآخر. وهذه هي الثقافة المثاليّة. إنها العقل في فهمه لذاته وواقعه.
فالعقل بلا ذاتٍ وهوية، يشكو ويتألم، يتوجّد، يشعر بالكآبة، لا يشعر بالوجود الحقيقي وهو مستغرب. هذا هو حال الأمم التي لم تجد، ولم تُوجِد لنفسها مساحةً في التاريخ، أو يصادر تاريخها آخرٌ بلا قيمٍ عقليّةٍ إنسانيّةٍ مهذّبة. غريزيّة القهريّة المهيمنة تسخّر من الآخر وتسخّره وتستعبِده. هذا حالُ العرب. وهذا ما كان حال الشعب الإيراني قبل أيّام الإمام الخميني (قده)، في ظلّ حكمٍ بادَ وأصبح حطبًا من حطب أبي لهب.
جمال العقل والصبر والحرية والالتفاف حول القائد صنع أمّةً جديدة، الأمّة الإيرانيّة، أو الأمّة الإسلاميّة، التي سعتْ للوجود في ظلّ فكر قائدٍ نقلها من براثن الاستبداد والعيش في غياهب السيطرة الغربية الأمريكية، الامبراطورية العولمية الجديدة، بعد الحرب العالمية الثانية.
أمّة حضنت القائد وعقله وشعوره وإيثاريته وإنسانيته، فاحْتَضَنها شعورٌ مختلفٌ ودنيا مختلفة، وحضورٌ في التاريخ والسياسة والإقتصاد والتحدّي، بشكلٍ مختلف. أمّة نقلها شعورُ قائدٍ بالحاجة إلى الحرية والتغيير، وعيش قضاياها كما أحبّ أن تقهر عدوّها وتنْتَصر. أمّة قادها رجلٌ تاريخي فأدْخلها التاريخ، انتصَرَتْ به وانتصر بها. تحول إلى تاريخٍ موحّدً فعّالٍ مستدام، تُبنى عليه أمجاد المستقبل. خرج شعبٌ من ركام كهف القهر الشاهنشاهي إلى معابر الحرية الخمينية، فأضحى الخميني قائدُها ورائدُها وإمامُها وفقيهُها ومنقذُها.
الإمام الخميني (قده) جاهد نظامًا جبروتيًّا، تدعمه قوة قاهرة، فقاوم وصبر وصمد وانتصر. رجلٌ زاهدٌ في الدنيا، أدخل أمة إلى عالم الدنيا. رجلٌ فكّرَ عن أمته، فأضْحَتْ أمَتُه فكرته وعقله وقلبه. سكنت به وسكن بها، حتى أضحت إيران الخمينية.
إمامٌ عظيمٌ أنجب أمة عظيمة، وأمة عظيمة عرفت بهدايتها التاريخية والعاطفية الدينية أنّه هو القائد، فاستلهَمتْ أفكاره وتمثلَتها كآياتٍ تُقرأ مع كل صباح، وعاشَتْ مواقفه فاكتظت شوارع المدن بمواقفها المذهلة، بما يحفظ صوت الخميني، وأوامر القائد. مع القائد والعالِم والصادق والشجاع تُصبح الأوامر جزءًا أصيلاً من الحرية. لأنّ هذه الأوامر رفعت القيود وخلعت "ملك الملوك"، وحطَمتْ النّاهب لثروات الشعب.
وصمدَ وريث الإمام قائدًا محافظًا على الثورة وقِيَمها، والدولة وأنظمتها وتشريعاتها، وعاش صراعًا مع مرض الأعداء، حتى أنهكهم بصبره، وثباته على القيم، وانتصر المؤسّس حتى غدت إيران أمّةً من الأمم، وشعبًا من أوائل الشعوب، وحضارةً تاريخيةً يرأسُها الدين، والسياسة إحدى مرتكزات كياستها البديهية. عاشت الثورة وقامت الدولة، وستبقى هذه الثورة، كما كلّ الثورات الشعبية النبيلة، حركات مقاومة بمبادئها ومنطلقاتها وأهدافها النورانية، وستبقى هذه الدولة بتشريعاتها تفوح منها رائحة الثورة، لا بل ستبقى صانعة الثورات والمقاومات.
منذ 37 سنة، عاد الإمام الخميني (قده) قائدًا في بلده وملهمًا لغيرها من البلدان، بعد نفيٍ استنْكَرَه بعض الشعب الإيراني، وعندما عاد إلى طهران في مثل هذه الأيام، كان الشعب الإيراني كله في انتظاره. عاش "لحظات" الثورة والسعادة التي حفرت في التاريخ، ولولا الثورة لما كانت إيران كما هي اليوم تسهم في صناعة التاريخ العالمي. تصنعُ ذاتَها وتكون نموذجًا للأمم الأخرى في الصبر والتحمل والاعتماد على الذات. قوّتها بذاتها قهرت كل "القوى" التي تستجدي فائض قوة الآخرين لتمنحها الوجود والبقاء على قيد الحياة.
غير أنّ شعبها وقيادتها استحقت جدارة الحياة، لأنها قارعت كلّ أشكال الاستكبار والعداوة، وجدواها بمعنوياتها ونموذجها. إنها استطاعت أن تعطي درسًا في علم الحياة، وعلم القوّة، وعلم الوجود. لذا، لا غنى عنها في هذا التاريخ، ولعلّ في خلفية ثقافتها ما يمنح أمّة أو أممًا أخرى سرّ البقاء والتقدم، فالعالم فضّل أن ينهي عداوته معها (عدا الأعداء)، لأنّه لم يعد يستطيع أن يرى الحياة السياسية بعيدًا عن مشاركتِها في هندستها.
نموذج الإمام الخميني (قده) وَجَد صنوه في لبنان – في أمّتنا – مع قائد المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني في لبنان السيّد حسن نصرالله. الذي استطاع أن يأسر لُباب العقول وقلوب جميع المقاومين التوّاقين للحرية والتحرير. فكما أمَّ الإمام الخميني (قده) الشعب الإيراني في دولة حرّة، فالسيّد نصرالله أمَّ جميع الأحرار من العرب وغيرهم، إلى المقاومة في مواجهة الاحتلال والتكفير، وانتصر.
السيّد نصرالله عاش قضية الاحتلال والانقسام والانفصام اللبناني/العربي وحوّلها إلى منطلقاتٍ للتحرير والوحدة والتماسك والقوة. عاش الأمل بالقوة الثورية وفلسفتِها وثقافتها، فأحياه في أنفس من تبَقّى على قيد الحياة من الشباب العربي.
مقاومة تحمل في ضميرها ووجدانها الجنوب، وجنوب الجنوب، والقدس وأقصاها وما حولها، والأمة وقضاياها كافة. قاد فأحسن القيادة، وتكلّم كإمام حقٍ يصدح بالحق. والإمام من يتقدّم بعقله وعلمه وقلبه وسلوكه، ليصبح شكل القضية ومضمونها، هيكلها وروحها، حروفها وكلماتها، معانيها ورموزها. هو القضية، والقضية ما يفكر فيه ويقوله. عاش الصبر مع كل الإفك، وخلع كل الدنيا ورفاهيتها واحتمل بصبره كل مشاكل الداخل، ليتفرغ للهموم الموحّدة والمشتركة.
بشخصيتة المتعالية عاش زهد الإمام الخميني (قده)، وبعقله الفذ استحوذ على مضامين الوجود، وبصبره الكابح للإنفعال، عاش حالة الفعل. عاش الصدق مع ذاته ومع محبّيه، فكان رمزًا للمحبة والاتباع والتقليد والإمامة.
الإمام الخميني (قده) في مقاومته لنظام الشاه ومَن ورائه مِن المستكبرين كان السيّد حسن نصرالله في شبابه ونضاله وجهاده، والسيّد نصرالله في عقله ومقاومته لما تبقّى من "شاهنشاهات" العقول البائدة، هو الإمام الخميني (قده) قائدًا جماهيريًّا لا ييأس محبّوه من اتّباعه ومحبته ولا يكلّون من المهام الكبرى التي يتصدّى لها. وعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ... فأتى عزمه خمينيًّا وفكره نبوئيًّا. هكذا كان الإمام الخميني (قده) يصدح بالثورة، وهذا هو السيّد نصرالله، روحُ روحِ الله الخميني، يصدح بالمقاومة ويطّهر العقول من المذهبية التكفيرية والصهيونية الجاثمة على صدر فلسطين وعلى تاريخ الأمة. فلا نُخَب السافاك أعاقتْ الإمام الخميني (قده) عن الثورة، ولا موساد الصهاينة أرمش السيّد نصرُالله...
قائدٌ ورثَ قائدا...قادا الأمة إلى قضاياها الجوهرية... حيث تبدأ صيغ الحرية والتحرير تُحاك في العقول، وتعودُ إلى القلوب فتعيش وتتفاعل معها... ومع كل خطابٍ كان يقوله الإمام الخميني (قده) كانت تقوم الثورة وتشتد وتنتصر، ومع كل عهدٍ يقطعه السيّد نصرالله يأتي انتصارٌ جديد وأملٌ بالمزيد، من لبنان إلى مواجهة الاحتلال - كان السيّد نصرالله يضع المتردّدين الخائفين أمام مرآة الحقيقة، هكذا ننتصرُ بالقول والفعل، منذ أن عاش القيادة لاقاها بكل ما تحتاجه لأنه "بالطّبع والفطرة معدًّا لها".
فالقيادة افتخرت بنموذجية هذين القائدين التاريخيين، لأنها وجدت معاييرها فيهما لتبقى على قيد الحياة، بعد أن كادت تفقِدُ معاييرها التاريخية. وقُزّمت على قياس منتحلي صفات القيادة.
كان الإمام الخميني متأكداً أن الجمهورية الإسلامية ستقوم وقامت، كما كان قائدُ المقاومة متأكداً أنّ الصهاينة سيندحرون من لبنان واندحروا "إنّ إسرائيل هذه هي أوهن من بيت العنكبوت" ... "وقد ولّى زمن الهزائم وبدأ زمن الانتصارات". قالها الإمام الخميني (قده) "إنّ إسرائيل هذه غدّة سرطانيّة" في الوقت الذي كانت أكبر دولة عربية توقّع اتفاقًا استسلاميًّا تتخلّى بموجبه عن فلسطين وتعترف بالكيان الغاصب الصهيوني. قالها السيّد حسن نصرُالله: "لو بقينا وحدنا في العالم، فلن نعترف بهذا الكيان الغاصب"، وقال:"حبرُنا لن يكون مع الحبر الإسرائيلي".
إنّه عصر الإمام الخميني (قده) المستمر مع وريثه السيّد نصرالله. فكر الإمام الخميني (قده) ومواقفه في كلّ المراحل: فقيهًا، مناضلاً، مجاهدًا، قائدًا، محررًا، وحاكمًا. سيبقى في تاريخ الشعب الإيراني والإسلامي وثقافته إلى أبد الآبدين، كما وأنّ خليفته السيّد نصرالله سيبقى قائدًا محرّرًا، ونبضًا لكلّ قلبٍ مقاومٍ، وصوتًا لكلِّ مجاهدٍ من فلسطين إلى كلّ زاويةٍ في العالم العربي، وإيران، وتركيا، وعالم الأحرار.... فيتكامل القائدان في حركتهما الثورية في هذا العالم لتنتصر الأمّة بهما...