الخميني الذي غيّر العالم
علي هاشم
بعد سبعة وثلاثين عاماً على نزوله الهادئ سُلّم الطائرة يمكن القول إن عالم ما قبل ثورة الخميني تغيّر، أو ربما الأصح معادلات ما قبله لم تعد كما بعده.
لم تكن خطوات روح الله الخميني الهادئة على سلّم الطائرة الفرنسية التي أعادته إلى طهران مُعبّرة عن حقيقة العاصفة التي جاء بها الرجل الثمانيني، ليس فقط إلى بلاده، إيران، إنما إلى منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بل إلى العالم. صاحب العمامة السوداء الموغلة في تاريخ يُعيده إلى قريش، إلى محمّد العربي نبّي الإسلام وخاتم المُرسلين، عاد وفي ذهنه أنه يحمل تحت عباءته ديناً جديداً، ليس بالمعنى الفقهي والشرعي، إنما بالمعنى السياسي والعلاقاتي. باختصار هو جاء بعكس كل القواعد المرسية منذ سقوط السلطنة العثمانية، منذ أن توزعت جغرافيا المسلمين بعد الحرب العالمية على ورثة آخر خلافة إسلامية، بعكس قواعد السياسة التي فرضت تبعية أطاحت كل مَن حاول رفع رأسه، بعكس قواعد العمر وهو في آخره، قرّر الخميني أنه شاب في الثمانين يريد تغيير العالم، فكيف بمن حوله.
قبل أسابيع قليلة من عودة الإمام كانت بلاده ركناً من أركان السياسة الغربية في المنطقة، برضا ملكها محمد رضا بهلوي وتسليمه، ورضا المحيط العربي القريب وتسليمهم، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية التي كانت خلال السنوات التي سبقت قد بنت سياستها في المنطقة، وفي الخليج الفارسي تحديداً على استراتيجية الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون المسماة "Twin Pillars Policy” ، والتي تقوم على تفويض السعودية وإيران الشاهنشاهية رعاية مصالح واشنطن في المنطقة والدفاع عنها.
جاء الخميني وقَلَبَ المعادلة رأساً على عَقِب، ضرب تحت الحزام بكتاب من بضعة صفحات صاغه خلال سنوات نضاله وأمّن عليه خلال رحلة الطائرة المغامرة بين يدي الصحافي الألماني بيتر شول لاتول في ظرف أصفر سأله عبر إبن شقيقته صادق طبطبائي أن يُبقيه معه في حال القبض عليه ومعاونيه وإعادته في حال نجاح المهمة.
في ذلك المغلّف الأصفر كانت أمّة الخميني المتخيّلة، مدينته التي رآها فاضلة، تلك التي نحت فيها سنوات وعقود، من قم إلى النجف فبورصة وباريس حتى يوم عودته. لم يكن لديه حرج في القول إنه لا يريد إحياء الأمبراطورية الفارسية من جديد، وهو ما أدخله لاحقاً في صِدام مع القوميين، ولا هو كان يريد إيران التابعة لمحور من محاور عالم ما قبل سقوط جدار برلين، وهو ما استفز الشيوعيين واتخذوه من تلك اللحظة خصماً لهم، ولا كان يريد دولة تشبه دولة الشاه المخلوع، وهو ما شكّل استفزازاً لمن كانوا قبل أيام فقط حلفاء طهران، هو استفز حتى أهل الحوزة في النجف وقُم وهم يرونه يغيّر في عادات المذهب الذي اعتمد لقرون مبدأ النأي بالنفس عن الحكم بانتظار عودة الإمام الغائب، فإذ به يزجّ بالفقهاء بأنفسهم في قلب السياسة عبر نظرية ولاية الفقيه المُطلقة، وهذه وحدها تستحق كتاباً يروي صراعاً فقهياً غير مسبوق. كانت كما يعبّر عنها شارلز كوزمان في كتابه "الثورة غير المتوقعة” الصادر عام 2004، "ثورة منحرفة” لأنها أسّست جمهورية إسلامية، ولأنها "وفقاً للتفسيرات الإجتماعية العلمية للثورة، ما كان أن ينبغي أن تحدث أبداً، وفي الوقت الذي حدثت فيه” كونها لم تتقاطع مع التفسيرات الإجتماعية العلمية للثورة بالنسبة للغرب.
كان بإمكان العجوز الثائر تأجيل قراراته الصادمة حتى يستقر له الحكم، لكنه اختار البدء بأصعب قرار، القرار الذي سيحوّل بلاده خلال أشهر فقط بنظر الولايات المتحدة والغرب إلى "راعي الإرهاب الأول”. في أوراقه المحفوظة في المغلّف الأصفر لم تٌكتب كلمة إسرائيل، فوراً قرر قطع العلاقات وسحب الاعتراف وحوّل السفارة الإسرائيلية إلى مقر لأول سفارة فلسطينية، ثم مُستقبِلاً قيادات المقاومة، رفاق سلاح الجنوب اللبناني الذي أطلق فيه لاحقاً نموذجاً جديداً للمقاومة.
في نظر الخميني بناء دولة قوية يستلزم أساسات بذات قوة الدولة، ولأنه لم يكن يريد أمة كأي أمة نحى منحى القرارات التي لا يتخذها عادة إلا المغامرون. كان مثيراً للجدل، تحدى الولايات المتحدة رافعاً شعار "الموت لأميركا” وقد وصفها تكراراً "بالشيطان الأكبر” مباركاً اقتحام سفارتها واحتجاز دبلوماسييها، وفي رسالة مباشرة إلى آخر رؤساء الإتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف دعاه "لإنجاز مهمة استئصال آخر الأعشاش المتهرّئة لحقبة السبعين عاماً من انحراف العالم الشيوعي”، وأباح دم سلمان رشدي على كتابه آيات شيطانية مثيراً الغرب وجماعات حقوق الإنسان. كل هذا وهو في قلب حرب ضروس مع العراق في وقت كانت الثورة الإسلامية لا تزال جنيناً. حرب أطلقها صدام حسين الذي قدّم نفسه مدافعاً عن البوابة الشرقية للعالم العربي في مواجهة "تصدير الثورة”.
بعد سبعة وثلاثين عاماً على نزوله الهادئ سُلّم الطائرة يمكن القول إن عالم ما قبل ثورة الخميني تغيّر، أو ربما الأصح معادلات ما قبله لم تعد كما بعده. أما هنا فأقتبس من كلام كبير مراسلي CBS الأميركية توم فينتون يوم جنازته "رغم أن الكثيرين من أفراد الطبقة الوسطى الإيرانية حملوا مشاعر مختلفة عن الثورة، إلا أنه لم يكن هناك شك حول مكانة الخميني في قلوب ملايين الإيرانيين، ما زال طاغياً عليهم بسحره، في حياته كما في مماته”.
الميادين