شعب ينتفض وسلطة تستثمر
أحمد الصباهي
ثلاثة أسابيع مرت على الحراك الجماهيري في فلسطين المحتلة، ونستطيع القول، باطمئنان، إننا أمام انتفاضة بكامل معالمها، تتقد جذوتها يوما بعد يوم، استشهد في أثنائها، حتى كتابة هذه السطور، 51 فلسطينياً، بينهم 11 طفلا، وأكثر من 1500 جريح. جيل شبابي فرض على قيادته المواكبة، هو "شباب أوسلو" المنتفض على واقع الاحتلال، وعملية الركود في الساحة السياسية الفلسطينية.
معادلة فرضت نفسها على السلطة الفلسطينية التي وجدت نفسها في البداية أمام مأزق، فهي لا تريد انتفاضة، ما فسر التزام محمود عباس الصمت أسبوعين، وإيعازه إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضبط الأوضاع، بالتنسيق مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، على أمل أنها هبة شعبية أو موجة سيخبو وهجها، وتعود الأوضاع إلى سابق عهدها.
أصيبت السلطة بالخيبة فالانتفاضة مستمرة، وكما يخشى الكيان الإسرائيلي الانتفاضة كذلك تخشاها السلطة الفلسطينية التي تحولت من سلطة مؤقتة، الهدف منها التأسيس لحلم الدولة الموعودة في مدة لا تتجاوز خمس سنوات، إلى كيان استمر أكثر من 20 عاماً يسعى إلى الحفاظ على نفسه بكل السبل، ومكبل بالقيود الإسرائيلية والأميركية.
الحركة الشبابية الفلسطينية الملتهبة التي اشترك فيها الجميع، ومن ضمنها كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، أحرجت السلطة، وشكلت، في الوقت نفسه، فرصة للاستثمار في الشارع الفلسطيني، وعلى الساحة الإسرائيلية والدولية، طالما أن السلطة لا قدرة عليها لقمع الشباب، بل سيؤدي ذلك إلى مواجهة مفتوحة مع الشارع الفلسطيني، ما يهدد السلطة بالزوال، فلنستثمر ذلك.
هذا المستجد المستعصي على السلطة أخرج عباس عن صمته، بعد أسبوعين من الانتفاضة، ليلقي علينا خطابا يستثمر فيها، مراعيا الأميركيين والإسرائيليين، وهو ليس بعيداً عن خطابه في الأمم المتحدة، وفي مؤتمره الصحفي مع الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في رام الله، فمصطلحات النضال السلمي، والتمسك بعملية السلام، مع التذكير بعدم قدرة السلطة على الاستمرار في تنفيذ اتفاقاتٍ لا تلتزم بها إسرائيل، هي بروباغندا إعلامية، تسعى إلى إرضاء الجميع، وتصب في مصلحة الحفاظ على السلطة، وتشكيل ضغط وهمي على إسرائيل والولايات المتحدة في سبيل شروط تفاوضية أفضل.
ليس هكذا تورد الإبل، فممارسات السلطة على الأرض لا تشي بتشكيل ضغط على الاحتلال، فالسلطة لم توقف التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، حتى اللحظة، ولم تعلن بوضوح تأييدها الانتفاضة، ولم تتحرك عربياً ولا دولياً، بقوة وكثافة، لمساندة ما يجري، إنما تبرر ما يجري على أنها حركة منتفضة على واقع يائس.
إن التلطي خلف هذا الموقف لتحسين الظروف لصالحها من خلال هذه الانتفاضة محليا ودوليا، على أمل أن يطرح الإسرائيليون بضغط من الشارع الفلسطيني مبادرة سياسية سيفشل بالتأكيد.
تدرك حكومة الاستيطان التي تتهم عباس بالتحريض وتصفه بالنازي جيداً حدود السلطة الفلسطينية ومواقفها، فتهديدات عباس بوقف التنسيق الأمني وحل السلطة الفلسطينية ثبت أنها تهديدات فارغة المضمون، لم تحصل، حتى الآن، في ظل شعب منتفض، وفي أسوأ ظروف تمر بها، تمنعها من ذلك عوامل عديدة، في مقدمتها رجحان كفة الحرص على البقاء، مهما كلف الثمن. تدفع هذه المعطيات حكومة الاستيطان لأن تجزم أن السلطة لن تجرؤ على الإطلاق أن تدعم الانتفاضة، أو أن تحل نفسها، ما يمكنها من قمع الانتفاضة بعنف، في ظل غطاء مقنع من السلطة الفلسطينية.
أمام هذا الواقع، سيفشل وهم الاستثمار السياسي بالانتفاضة في تحريك عملية التسوية الميتة، بشروط أفضل للسلطة، لكنه، في الوقت نفسه، سيفرض على السلطة خيارات صعبة، وموقفا واضحا مما يجري، ولن تعود الخطابات الملتبسة تفي بالغرض. فمع مرور الوقت، سينخرط الشعب الفلسطيني أكثر في المواجهة، وسيفوتها القطار إن لم تتدارك ذلك، ولعله فاتها.