الهبة الشعبية في القدس والضفة الغربية.. انتفاضة للفلسطينيين وتخبط لنتنياهو
سامر الياس
تواجه الحكومة الإسرائيلية الهبة الشعبية الفلسطينية بمزيج غريب من الإنكار للأسباب الحقيقية للغضب، والاستمرار في إدارة الصراع بدلا عن حله، ما قد يدفع بالأمور إلى انتفاضة ثالثة.
وتسعى حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية إلى كسر إرادة الشباب الفلسطيني، ووسمه بالإرهاب، ولا تغفل عن تبني قرارات صغيرة تسوّق لها على أنها تنازلات كبيرة مثل السماح للمصلين من جميع الأعمار بدخول المسجد الأقصى لأداء صلاة الجمعة، في مقابل التستر على قرارات بتوسيع البناء الاستيطاني.
وتعود الأسباب المباشرة للهبة الفلسطينية الجديدة إلى منع المصلين من دخول الحرم القدسي، ما ولد خشية فلسطينية من مخططات إسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا كما تم التعامل مع الحرم الإبراهيمي في الخليل. وانطلقت الهبة لتشمل القدس، ومناطق واسعة داخل الخط الأخضر، وفي مناطق الاشتباك مع الحواجز الإسرائيلية في الضفة، وفي قلب مدينة الخليل، وصولا إلى قطاع غزة.
الهبة الحالية للدفاع عن القدس سبقتها هبة النفق في عام 1996 بعد الكشف عن الحفريات تحت أساسات الحرم القدسي، انتفاضة الأقصى في عام 2000 بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون الاستفزازية للحرم بدعم من الجيش والشرطة. وقبل الحكم على مآلات الهبة الحالية لابد من التوقف عند بعض ميزاتها:
فمعظم المتهمين بحالات الطعن هم من الشباب الذين لم يتجاوزوا العشرين من عمرهم، وليست لهم سوابق أمنية مسجلة عند الإسرائيليين، ولا ينتمي معظمهم إلى أي تنظيم فلسطيني، أو فصيل إسلامي متطرف.
ومما يميز الهبة الحالية الانتقال السريع للتظاهرات على جانبي الخط الأخضر في الضفة وقطاع غزة والمثلث والنقب والجليل ومدن أخرى، بمشاركة جيل الشباب ممن لم يشاركوا سابقا في مواجه الاحتلال على شكل واسع كما في الانتفاضتين الأولى والثانية. ولكن بعد انسحاب إسرائيل من معظم المدن الكبرى في فلسطين وبناء الجدار العازل، والانسحاب أحادي الجانب في غزة فإن نقاط الاشتباك مع الجيش أصبحت أقل عددا بكثير، ويضطر المشاركون في الهبة إلى قطع مسافات كبيرة من أجل الوصول إلى الحواجز الإسرائيلية.
وتختلف الهبة الحالية ضد الاحتلال وممارساته في القدس باستخدام الأسلحة البيضاء، ووسائط النقل كوسائل نضالية، وتحولها إلى ظاهرة بعدما كانت حالات فردية في السنوات السابقة من عمليات دهس وطعن للجنود والمستوطنين.
ويأتي الحراك في ظل استمرار الانقسام بين الفصائل الفلسطينية، وبين رام الله وغزة ما أضعف دور التنظيمات في الحراك، واقتصاره على مباركة العمليات بداية، إلى تبني الشهداء والتلويح بالأعلام في مرحلة لاحقة. ومما يلقي بظلال قاتمة على مستقبل الهبة هو ما وصلت إليه الحالة العربية من التردي، فحتى عبارات الشجب والاستنكار افتقدناها في الهبة الحالية وتعجز الجامعة العربية عن عقد اجتماع قمة أو اجتماع على مستوى وزراء الخارجية لمناقشة كيفية دعم المقدسيين والفلسطينيين. كما أن العالم مشغول بإطفاء الحرائق في سوريا والعراق، ما لفت الانتباه عن القضية الفلسطينية، وتثبت اللجنة الرباعية يوما بعد آخر عدم جدواها وجديتها في الضغط على إسرائيل للمضي في تسوية عادلة. ومما سبق فإن تحول الهبة الشعبية الحالية إلى انتفاضة ثالثة دونه الكثير من العقبات رغم ما يبديه الشباب الفلسطيني من استعداد كبير للتضحية.
سياسات نتنياهو وتحريضه تعقد الأمور
لكن سياسات نتنياهو وحكومته المشكلة أساسا من وزراء مستوطنين ربما تخرج الأمور إلى طور جديد يصنعه شباب فلسطيني يرغب في ترك بصمته النضالية. فمع تجاهل حكومة نتنياهو للأسباب العميقة للهبة الجديدة والكامنة في الاحتلال الجاثم على المدينة منذ أكثر من خمسين عاما، وتسارع البناء الاستيطاني، وعزل القدس عن محيطها العربي بجدران وحواجز تنغص عيشة الفلسطينيين كل يوم. ولجأت الحكومة إلى معالجات بهدف إدارة الأزمة لا حلها. فبعد تبني قرارات صارمة بحق راشقي الحجارة، والسماح للشرطة بإطلاق الرصاص على المشتبه بهم في أي حالة طعن، وتشجيع الإسرائيليين على حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، قامت بعزل الأحياء العربية في المدينة بحواجز اسمنتية، وتشديد إجراءات التفتيش الشخصي لتشمل أي شخص بعدما كانت تقتصر على المشتبه بهم فقط. وواضح أن هذه الاجراءات لن تسهم في تخفيف التصعيد مع الأخذ بالحسبان خنوع نتنياهو لضغوط المستوطنين، واقراره بأثر رجعي ترخيص مبان في مستوطنة «ايتمار» في الضفة الغربية، تعويضا عن مقتل مستوطنيْن في إطلاق نار قبل شهر، ما ينذر بزيادة السخط الفلسطيني على سياسات الاستيطان التي ازدادت في شكل كبير من توقيع اتفاقات أوسلو في عام 1993 واستغلال إسرائيل المفاوضات غطاء لسياسة قضم الأراضي وسلبها، ما أدى إلى حصار المدن والقرى العربية وتقليص مساحاتها، وتضاعف أعداد المستوطنين ثلاث مرات في الضفة والقدس الشرقية خلال هذه الفترة.
ومع توسع التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني لجأ نتنياهو إلى سياسة اختلاق الأكاذيب من قبيل أن ما نشهده هو مجرد إرهاب، وأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو من تسبب بالإرهاب وأنه انضم لحماس وداعش بذريعة أن إسرائيل تهدد المسجد الأقصى. لكن ما أثار موجة سخرية واسعة في صفوف الاسرائيليين والعالم على حد سواء هو محاولة تزوير التاريخ بادعاء نتنياهو أن الحاج أمين الحسيني هو من حرض هتلر على صنع المحرقة بحق اليهود.