"داعش" أم السلطة؟ من يريد اسقاط راية عاشوراء بالبحرين؟
في مكان بارز، وسط شارع "الإمام الحسين (عليه السلام)"، بقلب العاصمة المنامة، رفع علم أسود كبير كتب عليه بخط أحمر "يا حسين"، في حضور آلاف من البحرينيين الشيعة، الذين ارتدوا السّواد، واستمعوا إلى مراث ونواح، ألقاها "منشدون" شبّان، بأصوات شجيّة، على وقع المراسم الأولى في موسم عاشوراء، والتي باتت تعرف بمراسم "رفع الراية".
لم تكن هذه المراسم معروفة، قبل 5 سنوات، لكنّها باتت تنظّم بشكل حاشد سنويا مع بداية شهر محرّم، في العاصمة المنامة، وفي الكثير من القرى والمدن البحرينية، وذلك في محاكاة لمراسم استبدال الراية على ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) في مدينة كربلاء، وهي مراسم جماهيرية تجري سنويا في العراق منذ سقوط نظام الطاغية صدام، وتتحوّل إلى تظاهرة سياسية دينية، يدشّن فيها موسم عاشوراء، ويحضرها ممثلو كبار المراجع الدينية، وتلقى فيها الخطب الحماسية، وقد صارت من المناسبات المهمّة سنويا.
في البحرين، تحظى هذه المراسم "الحديثة" باهتمام كبير، وانتشارها في قرى البحرين، ضمن استعراضات منظّمة تتبعها تغطيات إعلامية ممنتجة، يعطي بعدا آخر للمناسبة، هو إظهار التحدّي، ردا على حملة الانتهاكات السنوية التي يشنها النظام ضد شعائر عاشوراء.
عاشوراء البحرين: تاريخ وهوية وجملة ممنوعات
قوات النظام تقتحم أزقة القرى لتزيل وتمزّق "السواد،" (الأعلام السوداء، واللافتات الدينية التي تحمل شعارات المناسبة)، في هجمات تهدف إلى الحد من مظاهر الذكرى، قوة جذبها، وتأثيرها، وتهدف إلى رهن السماح باستمرارها لرضا السلطات، بسبب توظيفاتها السياسية، وملمحها الذي يشير إلى هويّة السكّان الأصليين: البحارنة الشيعة.
البحرين في محرّم "كربلاء مصغرة" كما اعتيد أن يقال. يقيم الشيعة في البحرين شعائر عاشوراء منذ مئات السنين، ولدى السفارة الأميركية في المنامة تسجيل فيديو لأحد مواكب العزاء القديمة، التي يعود تاريخها إلى 1934 على ما يبدو، وهي تعرضه في مختلف الاحتفالات والمناسبات التي تقيمها، كجزء من تاريخ هذا البلد وتراثه.
لماذا يعتدي النظام على خصوصية الأغلبية الشيعية، وما يعلّقونه في شوارعهم، وأعظم مناسباتهم الدينية؟ لماذا يدخل بآلياته ومركباته إلى عمق قراهم ومدنهم لينزع علما أسود اعتادوا على مدى عشرات السنوات تعليقه في محرّم؟
منذ 5 سنوات، أي منذ انطلاق ثورة 14 فبراير، وعاشوراء محل استهداف النّظام بطرق شتى، حتى قبل أن يعرف دورها في رفد الانتفاضة. تاريخيا، كانت عاشوراء مصدر الكثير من المتاعب للنظام، منذ العشرينات من القرن الماضي، لذا صار يركّز حتّى على موضوع الذكرى، حتى لو لم يكن في إحيائها توظيف صريح للواقع السياسي.
حين حقّق مع الخطباء في الأعوام الماضية، كانوا يستجوبون حول "من يقصدون بالظالم" وماذا يقصدون بالآيات القرآنية التي يوردونها!؟
منذ 2011، وهناك جملة ممنوعات عاشورائية، أولها الحديث عن المظالم السياسية في البلاد (تسييس المنبر). تصل الممنوعات حتى إلى استيراد الملابس السوداء التي تحوي شعارات دينية.
أحد المعلّقين في شبكة "تويتر"، ذكّرنا بأن النظام، وخلال موسم الود بين الملك والمواطنين الشيعة، كان قد خصّص فقرات من برنامج تلفزيوني لتغطية احتفالات ذكرى عاشوراء، من شوراع المنامة، أما اليوم فهو ينزع السواد الذي نعلّقه في شوارعنا!
كعادتها السنوية، قامت قوات الأمن بنزع الرايات واللافتات في الكثير من المناطق، منها: إسكان عالي، شهركان، المالكية، السهلة، أبوقوة، ومدينة عيسى.
وكما شوهد شرطي يصعد عمود إنارة رفيع لينزع من أعلاه علما أسود، العام الماضي، التقطت العديد من الصور ومقاطع الفيديو، لعناصر شرطة، يصعدون مبان بعضها ملكيات خاصة، لإزالة لافتات سوداء كبيرة، تخص ذكرى عاشوراء، كتب على إحداها شعار الإمام الحسين الشهير، الذي يردده الشيعة دائما: هيهات منّا الذلّة.
في "أبو صيبع"، وهي إحدى قرى "شارع البديع"، دخلت مدرّعات صغيرة، ترافقها مركبات أمنية أخرى، لإزالة اللافتات السوداء، التي كتب على إحداها: لن ننسى أسرانا. رجالا ونساءا، خرج أهالي أبو صيبع حين سمعوا بوجود قوات الأمن في القرية لنزع "السواد"، وتصدّوا لهم، ثم خرجوا في مسيرة صاحوا فيها "غصبا على عداك... نرفع رايتك".
بروباغندا حماية الشعائر من داعش
المفارقة، أن الحكومة لا زالت تمثّل دور الحامي لهذه الشعائر، ضد أي خطر "إرهابي"، أي ضد "داعش".
في مقابل ممارساتها الممنهجة ضد مظاهر عاشوراء، في كل أرجاء البحرين، (والتي تستخدم فيها آليات الدفاع المدني، مدرعات عسكرية، ودوريات)، تقول السلطات في بروباغندا ساخرة، بأنّها ستتولّى بشكل مباشر حماية المشاركين في الشعائر هذا العام، وخصوصا في مركز الإحياء الرئيسي: العاصمة المنامة.
الهيئة العامة للمواكب الحسينية في المنامة، قالت في بيان إن "وزارة الداخلية ستتكفل كلياً بموجب مسؤولياتها في الحفاظ على الأمن لإحياء هذه المناسبة وتنظيم عملية دخول وخروج المركبات من وإلى المنطقة".
روّاد المنامة "التي تضم أكثر من 50 حسينية، وتشهد أكبر مواكب العزاء المركزية في الخليج (الفارسي) كله"، قالوا إن السلطات الأمنية لم تمنع دخول المركبات إلى أحياء العاصمة، ولكنّها وجّهت مخالفات مرورية لكل من قام بإيقاف سيارته في الشوارع الداخلية، ما أدّى إلى عزوف كثيرين عن الذهاب إلى هناك، في ظل عدم توفير مواقف عامة.
السلطات الأمنية وضعت أيضا حواجز إسمنتية لمنع وقوف السيارات في شوارع وطرقات سوق المنامة وضواحيها سواء المتاخمة للمآتم الحسينية أو تلك التي تتصل بنهاية شارع السوق "لتعزيز السيطرة الأمنية على ما قد يحدث من تجاوزات للقانون أو أعمال تخريبية أو إرهابية قد يخطط لها المريدون خلال فترة مرور مواكب العزاء" بحسب وصف الصحف المحلية.
داعش وعاشوراء
منذ 2004، وذكرى عاشوراء هدف للمتطرّفين الدينيين، إذ استهدف المؤمنون الشيعة خلال إحيائهم المناسبة في مدينة كربلاء، وبغداد العراقيتين. كان وراء التفجيرات الانتحارية تنظيم القاعدة، نواة "داعش"، والنصرة، وشقيقاتها.
ولكن، قبل عام، قام متطرّفون، ينتمون إلى تنظيم "داعش"، بمهاجمة "حسينية" في الأحساء، خلال إحياء ذكرى عاشوراء، وقتلوا عددا من المعزّين بينهم أطفال، في أول حادثة من نوعها تقع في الخليج (الفارسي).
ثم في مايو/أيار 2015، حدث تفجيران في مسجدين بالقطيف والدمّام، أوديا بحياة عدد كبير من المصلّين الشيعة، ثم في شهر رمضان حدث انفجار ضخم بمسجد في الكويت، راح ضحيّته عدد كبير من المصلين، وأثار تداعيات كبرى، ورفع إلى السطح قضية استهداف الشيعة في الخليج (الفارسي) بسبب معتقداتهم، ما استدعى تدخّلا من أمير الكويت نفسه.
منذ ذلك الوقت، والسلطات تقيم نقاط تفتيش دقيقة على أبواب المساجد الشيعية، أسبوعيا، منعا من تسلل أي انتحاريين، والآن يتوقّع أن تشهد مواكب العزاء في الليالي القادمة، حضورا أمنيا رفيع المستوى، على غرار ما حدث في ذكرى وفاة الإمام علي ( عليه السلام ) بشهر رمضان الماضي.
النظام الحاكم: "داعش" البحرين
إلا أن بال البحرينيين غير مشغول بداعش ولا تفجيراتها... هو مشغول بمن يهاجم مآتم الحسين كل عام منذ خمس سنوات، ويزدري شعائره، ويعتقل خطباء منبره! مشغول بمن ينزع راية الحسين (ع)، راية عاشوراء البحرين، التي تقهر النظام الحاكم، ترعبه، وتجعله يستعيد تاريخا مهيبا، كما قال الشيخ علي سلمان، في آخر خطاب عاشورائي العام الماضي.
داعش خصم العراقيين، وخصم الشيعة في الأحساء والقطيف والكويت، ولكن خصم البحرين ليست "داعش" هذه.
نحن لدينا "داعش" الخاصة، "داعش" التي بيننا، "داعش" التي هدمت 38 مسجدا في 2011، وكسّرت جميع مضيفات المآتم في مختلف المدن والقرى، واعتقلت علماء الدين، وأغلقت الطرق لصلاة الجمعة، وحاصرت مواكب العزاء، وقذفت قنابل الغاز في مآتم النساء.
"داعش" التي اختطفت، عذبت، وقتلت البحرينيين الشيعة على الهويّة. "داعش" التي تسب أئمة الشيعة في المعتقلات السياسية كل يوم، وتهين فقهاءهم، وتزدري من عقائدهم، وتشكّك في أنسابهم وأعراقهم.
في عام 2006، أثارت لافتة عاشورائية تحتوي على كلمة للشيخ عيسى قاسم ضجّة كبيرة، بعد أن استغلّها خصومه في تصفية حسابات سياسية، فشنّت الصحف حملة علنيه، تتّهمه ببث الفرقة في المجتمع. بعد يوم من الحملة، أزالت السلطات اللافتة، التي تحسّست منها كثيرا:
"معركة كربلاء قائمة بطرفيها اليوم وغداً. في النفس.. في البيت.. في كل ساحات الحياة والمجتمع.. وسيبقى الناس منقسمين إلى معسكر مع الحسين (ع) ومعسكر مع يزيد فاختر معسكرك''.