روسيا ..واستراتيجية عدم التخيير في البدائل المتاحة
بقلم حسن شقير
منذ انطلاق السهم الروسي المضاد في سوريا في الثلاثين من الشهر الماضي ، انطلق معه سيل من التحليلات والترجيحات حول الوجهة التي ستسلكها التطورات في هذه الدولة النازفة منذ ما يقرب من الخمس سنوات ، بحيث أن هذا المسار يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما تخبئه روسيا ومن يؤازرها أيضاً من دول وأطراف ، في جعبتهم لما هو متمم لذاك السهم المنطلق في الجو ..
ولكن ، واذا ما تجاوزنا توقيت المراحل اللاحقة للتدخل الروسي المتدحرج في سوريا ، فإننا سنحاول في هذه العجالة ، استشراف العناوين الأساسية لهذه المراحل ، والتي لا بد لها أن تصب في خدمة المصالح الإستراتيجية الروسية الأبعد من سوريا بكل تأكيد ..
-في المسار السياسي : لم يكن لمؤتمري موسكو ١ وموسكو ٢ ، واللذان جهدت موسكو فيهما لجمع أطراف الأزمة في سوريا من طرفي النظام والمعارضة ، أية أثر سياسي فعّال في وضع الأزمة السورية على سكة الحل .. لا بل أن الجهود الروسية الأخيرة ، والتي هدفت إلى جمع هذه الأطراف مجدداً ضمن موسكو ٣ ، كانت قد باءت بالفشل ، فضلا ًعن أن مؤشرات هذا الأخير قد بدأت تسري على مبادرة ديمستورا الجديدة ، وذلك قبل أن تبصر النور
وعليه ، فإن روسيا قد استوعبت الدرس جيداً ، بأن جلب الأطراف المعارِضة إلى مائدة التفاوض الجاد والمجدي هذه المرّة ، لا يمكن أن يكون إلا ّ من خلال فعلٍ روسي مفصلي في الأزمة السورية ، تكون من نتائجه وتداعياته ، ضمن حدين إثنين ، ليكون أحدهما أفضل من الأخر لهذه الأطراف المعارضة ، فإما على هؤلاء انتظار تنفيذ ما بات يُعرف بالوديعة السورية لدى بوتين، وذلك بعد القضاء على الأرهاب في المنطقة ، وإما عليهم القبول بطرح بوتين الأخير ، بإمكانية التوازي والسير معاً في الحلين العسكري والسياسي على حد سواء ..وهذا الخيار الأخير يُعتبر أكثر " ضمانة ً " لأولئك من سابقه
إنها -باعتقادي -استراتيجية بوتين الجديدة في فرض السلوك التفاوضي المجدي على طرفي الأزمة ، وتحديداً المعارضة منها ، والانفتاح على طرح المخارج السياسية الجوهرية والمرضية للازمة السورية ، وذلك لحث هذه المعارضة على الإقلاع على أية مراهنات أخرى ، والقائمة على تلك الوعود الأمريكية الفارغة وغير مضمونة التحقق ( رحيل النظام)..
إنه الأنموذج الروسي الماثل أمام دول الشرق الأوسط ، والقائم على تقديم البديل الفعال لها في محاربة الإرهاب ، وذلك في عملية تحفيزية للإلتجاء نحو الحضن الروسي ذو المردود الإيجابي الملموس ، وذلك كبديل لما قدمه لهم ، تحالف امريكا المأزوم ، منذ ما يقرب من العام والنصف ..
-في المسار العسكري : لا تنفصل الإستراتيجية التفاوضية الروسية أعلاها ، عن المسار العسكري ، و الذي سيتبعه الروس في الميدان السوري … فقرار اجتثاث الإرهاب من سوريا حازم وجازم ، وممنوع الفشل فيه -ولإعتبارات شتى -، وبناءً عليه فإن عملية الإطباق على الإرهابيين من الجو وعلى الأرض ، ستصب بداية ، وبلا شك في مصلحة تقدم المسار السياسي أولا ً ، وثانياً ، ومن خلال الدعوة الروسية المتكررة للتدليل على الجيش السوري الحر لتحييده بداية ، وإشراكه في العملية التفاوضية تالياً ، فإن هذه الإستراتيجية الروسية تهدف إلى دحض البروباغندا الإعلامية الغربية وبعض العربية والتركية حول ذلك ، ومن جهة أكثر أهمية ، فإنها تهدف إلى محاصرة خطة التحالف في نزع الأثواب الإرهابية عن بعض الفصائل العسكرية في الداخل ، وذلك بعد فشل التدريب الخارجي ، وجعل هؤلاء نواة لمن أطلقوا عليهم " جيش سوريا الجديدة " ، والذي يراد له من قبل تحالف أمريكا ، أن يكون بديلا ً ورديفاً للجناح العسكري للمعارضة السياسية التي لا يزال هذا التحالف يأمل في تشكيلها لإضفاء الشرعية السياسية وحتى " السيادية " عليها
وبالتالي ، واستباقاً لهذا المخطط -والذي فصلنا فيه في مقالة ( إيران روسيا تحاصران سوريا الجديدة ومسارات ديمستورا الأربع ، والمنشورة بتاريخ 05-08-2015 ) -تأتي الدعوة الروسية لحشر تحالف أمريكا في المنطقة للقيام بعملية فرز عسكرية حقيقية بين الإرهابيين وغير الإرهابيين ممن يحملون السلاح في سوريا ، وخصوصاً أن الجميع يدرك بأن المتحالفين مع الموضوعين على قوائم الإرهاب الأمريكية والأممية ، هم السواد الأعظم من أولئك المتعسكرين … لذلك ، فإن الحملة العسكرية الروسية الحالية ، والمتمم الأتي لها ، والدعوة الروسية تلك ، تهدف إلى التحفيز لجعل هجرة من يحمل السلاح من السوريين نحو التفاوض مع الدولة السورية ، وخصوصاً في مرحلة اجتثاث الكيانات الإرهابية على الأرض … بدلا ً من أن تكون هجرة هؤلاء نحو كيان أمريكا وتحالفها المرغوب من " أبناء سوريا الجديدة " .
إنها -باعتقادي -استراتيجية بوتين العسكرية في المرحلة القادمة في ضرب مشروع أمريكا القائم على قيام ازدواجية الشرعية العسكرية في سوريا من جهة ، وفتح باب التسويات العسكرية المُرغِّبة نحو المصالحات مع الدولة الوطنية السورية في القلب والوسط السوري على وجه التحديد ( دمشق وحمص ) كمرحلة أولى .
-في مسار المعوقات ومكامن التهديد
ولكن تبقى مجموعةٌ من التساؤلات : ماذا عن ضجيج أمريكا وتحالفها في المنطقة ؟ وعلى ماذا يعولون على فشل روسيا في سوريا ؟ وهل فعلا ً هم غافلون عن التصميم والعزم الروسي على النجاح القسري في معركتها هذه ؟ وبالتالي هل يمكن آن يقوموا بإجراءات فاضحة في دعم الإرهاب ، وذلك لإطالة أمد المعركة وإشراك روسيا في استنزاف مباشر بعد أن كان حتى الأمس القريب بشكل غير مباشر ؟ وهل ستسمح روسيا لهم بذلك ؟
لنكن واقعيين في التحليل … فلا يمكن أن نتخيّل أن تحالف أمريكا في المنطقة يريد الإصطدام بالدب الروسي في سوريا ، ولا يمكن أن تسمح روسيا لهذا التحالف بآن يمرر إلى الإرهابيين في سوريا أسلحةً كاسرةً للتوازن في الميدان السوري ، فهذه الخطوة لا شك أنها ستقابل بالمثل ، فالجسر الجوي الروسي ممتلئ عن بكرة أبيه بأسلحة يشتهيها حلفاء روسيا في الميدان السوري … آما بخصوص تعويلهم على الإستنزاف المباشر لها في الميدان السوري ، فهذا أيضاً لهو غير ممكن الحدوث ، كون الخطوة الروسية لا شك بأنها قد دُرست بعناية قبل أخذ عبر الماضي ، ناهيك عن أنها ليست مقطوعة عن خطوات تكميلية لآخرين مشاركين معها ، يتوقون معها للخلاص من الإستنزاف عبر الحرب على الإرهاب ، فضلا ً عن توقهم الآخر بإعادة بوصلة الصراع للأمة إلى وجهتها الأساس نحو فلسطين ….
من هنا فإن التخبط الأولي لتحالف أمريكا في المنطقة في كيفية التعليق على الضربات الروسية الأولى في سوريا ، ومن ثم الهلع الذي آصابهم جرّاء ذلك ، جعلهم كدولٍ بتراء ينتحبون على مستخدميهم من الإرهابيين… حتى قبيل اجتثاثهم !!! فتراهم كأطفال عاجزين يدعون بالثبور وعظائم الأمور لتداعيات الخطوة الروسية الجريئة ، وذلك في خوفٍ مستغرب ومضحك في أنٍ معاً على " روسيا الغارقة " على حد وصفهم !!!
الأكيد أن كل ذلك لن يثني روسيا ومعها محور الممانعة ، عن إكمال ما بدأوا به ، وعليه فإنها ومتابعةً لإستراتيجيتها الحالية في تقديم البدائل المتاحة والفعالة على كافة الصعد ، وذلك للوصول بالأزمة السورية إلى بر الأمان وجر أولئك مرغمين على التكامل في ملفي محاربة الإرهاب في المنطقة ، وفكفكة عقدها المستعصية تالياً … فلأجل ذلك وفي الوقت عينه فإن العين الروسية ستبقى مراقبة لكل مكامن التهديد والعرقلة لخريطة طريق استراتيجيتها الجديدة في سوريا والمنطقة برمتها ، والتي قد يكون من بينها -أي هذه المكامن -فتح ساحات إرهابية جديدة للتعويض عما قد يحصل في سوريا … والذي قد يتمثل في دخول اللاعب الأكثر خسارة في الميدان السوري ، إذا ما نجحت روسيا فيه ، ألا وهو الكيان الصهيوني ، والذي ما زال وزير الحرب لديه يردد -ومنذ صيف العام ٢٠١٣-بأنه " من غير المسموح لمحور الشر الممتد من طهران حتى دمشق من الإنتصار في سوريا " ( على هامش لقاء يعلون -ديمبسي في أب ال ٢٠١٣ ).
استباقاً لذلك ، وانطلاقاً من المعرفة الروسية الأكيدة بأن أكبر الخاسرين من هزيمة الإرهاب في سوريا والمنطقة ، سيكون الكيان الصهيوني … فإنه والحال كذلك كان لا بد من استدعاء نتنياهو إلى روسيا مصطحباْ معه جنرالاته الكبار ، معلناً أنه يريد التنسيق مع روسيا لعدم حصول حوادث غير مرغوبة في السماء السورية … ومخفياً عن سؤال ٍ أجبرته التطورات الأخيرة في سوريا على طرحه : ماذا تريدون ؟ فكان الجواب الروسي له صريحاً ، بأن " روسيا في سوريا للحفاظ على وحدة الدولة السورية وتعافيها ، وليست في وارد دعم فتح الجبهات " التي يخشاها الكيان ، وبالتالي لا وجود لخط نتنياهو الأحمر الأول … وأن جسرها الجوي العسكري ، ستبقى محتوياته الكاسرة للتوازن بين دفتيه ، دون وصولها إلى من يخشى نتنياهو وصولها إليه ، طالما أن حلفاء الكيان في تحالف أمريكا ملتزمون بعدم كسر التوازن مع مستخدميهم في سوريا ….. وعليه فلا معنى للخط الأحمرالثاني الذي رسمه نتنياهو ..”
إنها إستراتيجية بوتين في نزع صواعق التفجير الإستباقية لخريطة طريق استراتيجيته في سوريا من مكامن الخطر ، والذي -ربما -قد يكون الأخير المرتجى لدى تحالف أمريكا في إفشال الخطوة الروسية في سوريا والمنطقة ، وذلك في افتعال الكيان لحرب مفاجئة على المقاومة في لبنان -وبحجج الحفاظ على الأمن المهتز عند الحدود الشمالية للكيان … والتي من شأن حدوثها -لا سمح الله -بأن تخلط الأوراق مجدداً في القضاء على الإرهاب وتضييق رقعة. انتشاره … فلعل الفعل الإرهابي في الجولان المحرر ، وتحديداً في منطقة حضر ،ليس وجهته الغوطة الغربية لدمشق ، بل شبعا والجنوب اللبناني ، كمحطة إرهابية تالية لحرب صهيونية يخطط من خلالها العدو لإحداث نقلة استراتيجية في ميزان القوى على الجبهة الشمالية …( مقالة سيناريو صهيوني جديد .. الجيش يد الإرهابيين الضاربة .. والهدف ..نُشرت بتاريخ 23-06-2015 )
إنها -باعتقادي -استراتيجية بوتين ، بتخييرالكيان الصهيوني بين الضمانة الروسية بتثبيت ستاتيكو الحدود ، كما كانت قبل اذار ٢٠١١ وإبقاء سوريا الموحدة ، أو تحمل الكيان لنتائج القضاء على ارهابيي " الجدار الطيب " على الحدود معه ..
الأيام والأسابيع القادمة ..كفيلةٌ بتوضيح الصورة .