ضربة قيصر
علي عوباني
ضرب الدب الروسي ضربته في سوريا، بتوقيت محسوب، بعدما لمس بوادر انعطافة دولية، جراء فشل رهانات الحرب الكونية لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، استنزف الغرب ومعه المتآمرون العرب كل طاقاتهم، رموا بجميع أوراقهم على الطاولة، جيّشوا، حشدوا، مولوا، ودربوا وسلحوا، ولم يتقدموا قيد أنملة في مخططاتهم. رمى محور المقاومة في المقابل ورقته الرابحة بعدما صبر طويلا، محدثا تحولا مفصليا في مسار الأزمة السورية، لا شك انه سيثمر باتجاهين: الأول محاربة جدِّية للإرهابيين والثاني فتح قنوات الحوار، ودفع العملية أو التسوية السياسية الى الامام، سيما بعد تحقيق تفاهمات جزئية كهدنة كفريا الفوعة – الزبداني برعاية الامم المتحدة، ما قد يفتح الباب امام توسع هذه التسويات بحال نجاحها لتمتد على كامل الاراضي السورية بالتفاهم على صيغة انتقالية للحكم.
ابعاد الحضور العسكري الروسي في سوريا
للروسي بالطبع حساباته الخاصة، منها منع خسارة منفذه الوحيد وبوابته الى الشرق الاوسط، وبالتالي استعادة التوازن الدولي بعد 25 عاما من الخلل، وتثبيت بلاده رقما في المعادلة الدولية بعد تراجع الهيبة الاميركية، وإثبات انه ما زال قادرا على تغيير المعادلات والحسابات الدولية، وان اميركا التي حاولت اللعب بحديقته الخلفية في اوكرانيا باتت اليوم بموقع أضعف، والدليل استعادته زمام المبادرة في المنطقة من البوابة السورية، مع ما قد يجر ذلك من تطورات أول غيثها، كان فتح شهية الحكومة العراقية على تدخل روسي مماثل.
البعد الدولي ليس البعد الوحيد خلف التدخل الروسي في سوريا، هناك بعدٌ آخر الا وهو الخشية من تمدد "داعش" وارتدادها الى اوروبا وتحديدا الى روسيا، من هنا تشن موسكو حربها الاستباقية ضد "داعش"، برضى ضمني من بعض الدول الاوروبية، وتطرح الاسباب نفسها التي دفعت حزب الله إلى التدخل في سوريا ألا وهي حماية روسيا، كما طرح حزب الله حماية لبنان من التكفيريين، مع العلم ان لبنان يشترك بحدوده مع سوريا ويسهل بالتالي تسلل الارهابيين إليه، بينما روسيا يفصلها 600 كلم عن سوريا.
وثمة بُعد اقليمي ايضا، يتمثل بفتح كوة في جدار الازمة السورية، فالضربات الجوية الروسية تركز على تصفية الارهابيين، ومد يد الحل للمعارضين السياسيين، عبر مشروع سياسي جاهز، اعدته روسيا بالتعاون مع طهران، ما قد يحدث تحولا جديا في مسار الازمة المستمرة منذ اكثر من اربع سنوات، خصوصا وان الحضور الروسي المؤثر، يجعله الراعي الدولي لأية تسوية في سوريا، ما يطمئن الى حد ما دول الخليج الفارسي وعلى رأسها السعودية، التي تفترض ان وضع سوريا في الحاضنة الروسية، وبقاء الرئيس الاسد في السلطة برعاية روسيَّة يسحب البساط من تحت طهران في سوريا، ويقلص نفوذها، ما يجعل الرياض اقرب للقبول بمبدأ التسوية السياسية من الاستمرار بدعم الارهابيين وتمويلهم، على قاعدة انه يمكنها لاحقا البيع والشراء مع الروسي باعتبار المصالح المتبادلة بين البلدين، وبالتالي تحقيق مكاسب اخرى على حساب الرئيس الاسد.
يضاف الى ذلك، ان السعودي اقتنع مؤخراً بأن الحرب الكونية التي شنها هو وحلفاؤه قد تفضي الى تغيير ديموغرافي في سوريا بعد خروج 8 ملايين سوري منها، فكانت النتيجة ان الحرب بدل ان تسهم باسقاط الرئيس الاسد كما خطط لها، اسهمت في هجرة طائفة كبيرة من الشعب السوري، وبالتالي في بقاء الرئيس الاسد، مع امكانية حصول تغير ديموغرافي في السنوات المقبلة بحال عدم عودة هؤلاء الى بلدهم.
ايران وحزب الله من جهتهما لا يضيرهما التدخل الروسي في سوريا، بل على العكس لقد جاء بالتنسيق الكامل معهما ومع الحكومة السورية، ولذا بات يشكل عنصر قوة اضافية سيسهم بزيادة الانجازات الميدانية وتحقيق النصر المتوقع. من هنا كان الترحيب الاخير للامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله بكل حضور في سوريا يسهم بمحاربة الارهاب.
اما في الحسابات السياسية، فلا مانع لدى طهران من تسوية سياسية تبقي سوريا ضمن محور الممانعة، والرئيس الاسد على رأس السلطة، لان ذلك هو ما قاتلت لاجله طوال اربع سنوات، فإنَّ تحقق ذلك بالتسوية، برعاية دولة حليفة كروسيا، فهو ما تسعى اليه في الاساس، بل ذلك يعتبر انتصارا لصمود الشعب والجيش السوري وحلفائه وتضحياتهم.
توقيت التدخل العسكري الروسي
يطرح البعض تساؤلات كثيرة عن سر هذا التحول، ولماذا انتظرت روسيا الى اليوم لتتدخل عسكريا في سوريا، فلماذا الآن وليس قبل اربع سنوات، ويحلل آخرون ان روسيا انتظرت حتى انهكت سوريا لتطرح نفسها كمخلص وتقطف ثمار الازمة، لكن ذلك التحليل ينطلق بلا شك من عدم فهم دقيق للجهود التي بذلتها روسيا على مدى السنوات الاربع، والتي استنفدت فيها كل السبل السياسية من جنيف واحد واثنين، وثلاثة، وفتحت فيها قنوات وعقدت مؤتمرات وحوارات بين السلطة والمعارضة، فضلا عن منعها شن عدوان على سوريا بخلفية السلاح الكيماوي عام 2012.
لا شك ان توقيت التدخل العسكري الروسي وكيفية اخراجه بعدما بقي التحضير له طي الكتمان على مدى اشهر، يعتبران "ضربة قيصر"، اذ ثمة عوامل كثيرة دفعت القيادة الروسية لاحكام هذا التوقيت، ومنها :
1- صمود الرئيس الاسد طوال اربع سنوات، وسقوط كل المشاريع المناوئة لايجاد بديل عنه، حتى اضحى اليوم الرقم الاول المعول عليه في محاربة الارهاب الذي يخشاه الغرب.
2-فشل "التحالف الدولي" التي قادته اميركا في محاربة "داعش" وانكشاف دوره الذي لا يعدو كونه فزاعة او دعابة اعلامية يتلهى بها الاميركيون لصرف الدول المعنية عن المحاربة الفعلية للتنظيمات الارهابية.
3-استنفاد المتآمرين كل اوراقهم على مدى اربع سنوات واستنزافهم، وانكفاء الدول الاقليمية المتآمرة على سوريا وتراجع دورها لصالح الانشغال بترتيب بيتها الداخلي كتركيا وقطر والسعودية.
4-صرخة الاوروبيين من موضوع اللاجئين، وتغيير موقفهم تدريجيا من الرئيس الاسد ما يجعل الدول الاوروبية اكثر تقبلا للتدخل الروسي بعكس الموقف الاميركي الذي له حساباته الخاصة في هذا المجال.
بوتين
الرئيس الروسي بوتين
هذا من جهة، اما في الشكل والاخراج، فقد حرص الكرملين الروسي على شرعنة ضرباته الجوية في سوريا عبر الحصول على تأييد الاتحاد الروسي من جهة، وتلبية طلب الحكومة السورية، ما يضع هذا التدخل تحت سقف القانون الدولي، بخلاف التحالف الاميركي والذي جاء خارج عن اطار المعايير الدولية وبدون تنسيق مع الحكومة السورية. كما ان تسارع خطوات الاعلان عن التدخل الروسي والبدء بتنفيذه وجه رسالة حاسمة للجميع بأن روسيا جدية وان عليهم التعامل مع هذا الامر وفق اجندتها، وانها لن تنتظر موافقة دولية من احد، وعلى الجميع اللحاق بها والسير في ركبها.
النتائج المباشرة
بالمحصلة، فان الحضور الروسي خلق "ستاتيكو" جديد على الساحة الاقليمية والدولية، قلب الطاولة على الجميع ووضع حد للمؤامرة الدولية على سوريا، ويتوقع ان يكون له مفاعيل كبيرة جدا، منها:
1-اولى النتائج المباشرة، اعادة روسيا بقوة الى الساحة الدولية، كقطب قوي ومؤثر ولا يمكن تجاوزه، وانهاء مرحلة القطب الواحد والتفرد والهيمنة الاميركية على العالم، وهو ما يتقاطع مع ما طرحه الرئيس الصيني في خطابه قبل ايام عن عالم متعدد الاقطاب امام الجمعية العامة للامم المتحدة.
2-احباط وافشال كل المخططات الاميركية ضد دمشق، من هنا كلما علا صراخ الدول التي تآمرت على سوريا كلما ظهر حجم التأثير الروسي في المعادلة السورية، وفي كيفية اعادة رسم خريطة المنطقة.
3-حسم مسألة بقاء الرئيس الاسد بشكل نهائي لا رجعة فيها. وثبت انه لا بديل عنه بمواجهة الارهاب، بعدما عجز المتآمرون عن تقديم اي بديل وسقوط كل مشاريعهم السياسية جراء تناقض المصالح.
4- فرض على الدول المتآمرة اعادة حساباتها باعتبار ان اي دولة ستكمل الحرب على سوريا ستعتبر انها تقف بوجه قوة دولية عظمى هي روسيا
5- اعطى قوة دفع معنوية ومادية عالية بمواجهة الارهاب ستسهم في الحسم العسكري على الارض
6-فتح الباب واسعا امام التسوية السياسية مستقبلا
الموقف الاميركي والاسرائيلي
لا شك ان التدخل العسكري الروسي في سوريا احرج الادارة الاميركية، بدا ذلك واضحا من حالة التخبط والهذيان على لسان المسؤولين الاميركيين، وكيفية التعامل مع هذا المستجد. الموقف الاميركي أتى بالطبع واضحا بخلفياته، فواشنطن لا تزال تتصرف بجنون العظمة، ولا تقبل بتحريك قطع الشطرنج على الساحة الدولية دون اشارتها، مع المفارقة بأنها نفسها التي تعترض اليوم على التدخل الروسي قادت تحالفا ضد "داعش" في سوريا والعراق دون موافقة المنظومة الدولية او حتى استشارتها، ومن دون تنسيق او طلب من الحكومة السورية.
اكثر ما ازعج الاميركيين ان طرفا دوليا آخر تجرأ وفرض نفسه، وأمسك بزمام المبادرة في سوريا، وخرَّب كل مخططاتها، المبنية على اساس ابقاء نار الفوضى السورية متقدة، التدخل الروسي أتى ليفشل جهود اربع سنوات ونيف من التآمر، عبر محاربة جدية لـ"داعش" تستند الى توفير غطاء جوي للجيش السوري على الارض، بضرب اهداف حقيقية وليست وهمية استنادا الى بنك معلومات، تم تحضيره على مدى اشهر سابقة. لكن السؤال في النهاية الى أي مدى سيذهب الامريكي بمواجهة روسيا؟ هل يذهب الى مواجهة مباشرة على الارض السورية مع ما يعنيه ذلك من حرب عالمية، بظل ارتسام معالم محورين دوليين، ام انه سيستلحق نفسه ويلملم خسائره، عبر التنسيق مع روسيا ليكون جزءا من اي حل سياسي مقبل، كما فعل رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو الذي سارع لزيارة موسكو لحجز مقعد له على الطاولة، بعدما واجه انتقادات عبّرت عنها بوضوح زعيمة المعارضة "الاسرائيلية" تسيبي ليفني حينما قالت ان "العالم يرى ان ايران وحزب الله جزء من الحل في سوريا بينما "اسرائيل" خارج الصورة".
في النتيجة، اثبت محور المقاومة مرة جديدة تماسكه وتكامله، وانه لا يزال في عز قوته ولم يستنزف وانه قادر على الصمود لسنوات، ولا يزال يمتلك غطاء دوليًّا، والكثير من اوراق القوة التي يحسن استخدامها، بعكس الفريق المعادي المشتت الاطياف، والمتناقض المصالح، والذي أتى بالمسلحين الارهابيين من اصقاع المعمورة، وحشد طاقاته الى الحد الاقصى دون تحقيق نتائج استراتيجية تذكر، وهو ان حقق بعض المكتسبات الهامشية على ارض الميدان، فانها بقيت غير مؤثرة في تغيير المعادلات، التي بات رسمها حكرا على روسيا وحلفائها في الميدان.