لماذا تتعالى أصوات اليمين في “إسرائيل”؟
علي بدوان
الحالة التي وصلت إليها العملية السياسية التفاوضية بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” وارتفاع حدة الموقف "الإسرائيلي” والتشنج في مواقف حكومة نتنياهو، منتج طبيعي ومنطقي مئة بالمئة للحالة السائدة في المنطقة حيث غياب العوامل والروافع العربية المساندة للفلسطينيين، وتراجع حضور القضية الفلسطينية في ظل الغليان الجاري في عددٍ من البلدان العربية والأزمات الطاحنة الواقعة في تلك البلدان.
كما أن مواقف حكومة نتنياهو، منتج طبيعي أيضًا، وانعكاس مباشر لواقع الانزياحات اليمينية واليمينية المتطرفة داخل المجتمع "الإسرائيلي”. فعند دراسة واقع المجتمع "اليهودي الإسرائيلي الصهيوني” على أرض فلسطين التاريخية، نحتاج لجهد كبير في تتبع مسارات التحولات اليومية التي أصابت وتصيب القوى المجتمعية، بما فيها المنظومات السياسية والفكرية وعموم الأحزاب في "إسرائيل”.
إن عملية الخلط التي أصابت تيارات "اليسار الصهيوني” خلال السنوات القليلة الماضية، أعطت نتائجها بتعاظم أصوات اليمين وتقدم حضورها في المجتمع والسياسة وصناعة القرار في "إسرائيل”، وبانكفاء أو تراجع نزوع بعض "الأطراف الإسرائيلية” من أقطاب الصهيونية العلمانية عن القبول بمبدأ الحلول المتوازنة على أساس الاعتراف بالآخر والتقارب مع أسس المرجعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط بما في ذلك عند صف من "المؤرخين الجدد” أو ما اصطلح على تسميتهم بتيار "ما بعد الصهيونية”. فترحيل الفلسطينيين حظي بمتحمس ذاع صيته كمؤرخ جديد في "إسرائيل” اسمه (بني موريس) الذي انتقل من مواقع إدانة وفضح ما جرى للشعب العربي الفلسطيني عام 1948 من عمليات تطهير عرقي وترانسفير، إلى مواقع التنظير لدولة يهودية صافية من "النهر إلى البحر”، وفوق كل ذلك "أعرب عن أسفه لأن ديفيد بن جوريون لم ينهِ مهمة التطهير العرقي عام 1948”.
هذه التفاعلات سحبت نفسها بالضرورة أشكالًا من الانقسامات السياسية على امتداد الخارطة السياسية "الإسرائيلية” وحتى الأيديولوجية من أقصاها إلى أقصاها داخل المجتمع اليهودي على أرض فلسطين التاريخية، وانحسر نفوذ القوى التي تتبنى قرارات الشرعية الدولية التي قَبِلَ بها الإطار الرسمي الفلسطيني بالرغم من الإجحاف الكبير الذي تُلحقه بالحقوق الوطنية والتاريخية للشعب العربي الفلسطيني.
لقد أعطت مؤشرات استطلاعات الرأي الأخيرة في "إسرائيل” والمنشورة على صفحات بعض الصحف العبرية، أرقامًا متواضعة لحضور القوى والأطراف والأفراد ممن يقبل بقرارات الشرعية الدولية كأسس للحل مع الطرف الفلسطيني، فلم تتجاوز فيها نسبة حضورها عن (13%) من العينة المختارة في واحدة من تلك الاستطلاعات، وهي النسبة المؤيدة للانسحاب "الإسرائيلي” من كافة الأراضي المحتلة عام 1967، بينما وصلت النسبة إياها إلى حدود تجاوزت (22%) داخل الوسط اليهودي قبل عدة أعوام مضت.
وكل هذا الحراك الذي يتبدى أكثر فأكثر بخط بياني متعثر هبوطًا وصعودًا في مواقف الأحزاب والتيارات المنادية بسلام الشرعية الدولية في الكيان الصهيوني، والتأرجح المتواصل في تكتيكاتها وتحالفاتها يعود لعدة أسباب مباشرة: أولها التعقيدات التي باتت تحكم عملية التسوية برمتها بعد أن وصلت إلى طريق شبه مسدود. وثانيها اندلاق شهية التطرف عند المجتمع "الإسرائيلي” عمومًا، وصعود اليمين بشقيه العلماني والتوراتي داخل الوسط اليهودي في ظل حالة من اللامبالاة الدولية تجاه ما يجري في الأراضي الفلسطينية. وثالثها حالة الانشغال والانشداد الدولي إلى ما يجري في العالم والعالم العربي على وجه الخصوص من أحداث باتت تستقطب الاهتمام الأول عن القضية الفلسطينية.
وبالنتيجة، إن ما يجري داخل الخارطة السياسية "الإسرائيلية” يدلل بوضوح بأن هناك إعادة تشكيل سياسي وحتى اجتماعي واضحة داخل "إسرائيل” في ظل المعطيات القائمة وفي المناخ الإقليمي السائد الذي غيّبَ القضية الفلسطينية.
إن هذه الحالة من الفعل لا تعني بأن المجتمع الاستيطاني اليهودي سائر نحو التماسك النهائي لجهة الالتفاف وراء خطاب قوى اليمين واليمين المتطرف، ففي هذه العملية نلمس الحجم الكبير من التناقضات والتداخلات داخل المجتمع "الإسرائيلي”، فمثلًا: إن طيفاً واسعاً من التشكيلة الاجتماعية "الإسرائيلية” اليهودية مُتجهة نحو تأكيد التشكيلات الإثنية القومية الخاصة والاستيطانية (أكثر من ثلاثين إثنية بجذورها القريبة) وهو أمر يقع على التعارض من عملية الأسرلة اليهودية الصهيونية التي تسعى "إسرائيل” لفرضها حتى على المواطنين العرب داخل حدود العام 1948 في صياغة هيكلية الدولة والمجتمع على قاعدة صهيونية و”إسرائيلية” الجميع في المجتمع وإنهاء الصفة القومية "للأقليات” ووأد عملية الانبعاث القومي للتجمع الفلسطيني في مناطق 1948.
إن ملاحظة هذه التطورات ورؤية التناقضات والتعارضات في بنية المجتمع "الإسرائيلي” اليهودي على أرض فلسطين التاريخية، عامل مُهم ومُؤثر في تحسين وتطوير الأداء الفلسطيني والعربي المُفترض في المجال السياسي والدبلوماسي بشأن الصراع مع الاحتلال، ولإعمال العقل حول ما يجري داخل "إسرائيل” وربطه بالعملية السياسية والمآلات التي وصلت إليها بعد سنوات مديدة من التفاوض العبثي.