عملية الخليل… ثنائية الاحتلال ومقاومته
عبد اللطيف مهنا
ردة فعل الصهاينة، التي كانت الأشبه بالذهاب إلى حرب شاملة على كل ما هو فلسطيني، من حيث الاستنفار الأمني والسياسي والإعلامي، والبالغ حدًّا غير مسبوق من الارتباك والتخبط والهيستيريا، يرجِّح فدائية نسبتها وينبئ بمدى نوعيتها، والتي أول مفاعيلها أنها قد هشَّمت أسطورة الهيمنة الأمنية للمحتلين في الضفة تحديدًا، وفضحت في نفس الوقت مدى التنسيق أو التعاون الأمني لأجهزة السلطة الأوسلوية معهم، هذه الأجهزة التي غادرت سلفًا المناطق العرضة للتنكيل قبيل اجتياح الصهاينة لها.
ما تتعرض له الآن كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد العام 1967، أو الضفة والقطاع، من استباحة وما تلاقيه من بطش لا يعكس في بعض أوجهه إلا هشاشة مثل هذه الأسطورة وفشلا لسطوتها الأمنية المبالغ في تصويرها. لكنما، يجب أن لا يغيب عن البال أيضًا أن مثل هذه الهيستيريا القمعية الأمنية، وكل هذا الانفلات العدواني الباطش، أنهما يعكسان فوبيا وجودية كامنة لدى كيان مفتعل تظل جاهزة لأن يوقظها أي خطر يمس أمنه صغر أم كبر، إلا أنهما يشكلان فرصةً يغتنمها الغزاة لاستباحة الأرض والإنسان الفلسطيني المستفرد بهما، وملاحقة الروح النضالية والإرادة المقاومة لدى شعب فشلت أهوال ونكبات ما ناف على الثلاثة أرباع من القرن في تركيعه أو إطفاء جذوة مقاومته للمعتدين الغاصبين، طبعًا إلى جانب استهدافات أخرى سوف نعرض لها لاحقًا.
استدعاء للاحتياط وزج لفرقتين منه إلى جانب "وحدة شمشون" من قوات النخبة في مدينة الخليل وحدها، ترافقها المناطيد وكاميراتها المحلقة في سماء المدينة المستباحة، وتفتيش من بيت لبيت فيها، بل وإغلاق ومحاصرة لكامل الضفة ومداهمات واقتحامات على امتدادها مدنًا وقرى ومخيمات وحتى الجامعات، أما غزة المحاصرة عربيًّا وصهيونيًّا فكان من نصيبها الغارات الجوية وقصفها مع التهديد والوعيد بشن حرب "رصاص مسكوب" عدوانية ثانية عليها. لقد تم اعتقال ما زاد، حتى الآن، عن الثلاثمئة من القادة والكوادر والمناضلين من كافة الفصائل ولحماس منهم نصيب الأسد، ومن بينهم د. عزيز الدويك رئيس مجلس تشريعي السلطة، إلى جانب إعادة اعتقال 51 من الأسرى السابقين الذين تم الإفراج عنهم في ما عرف بـ"صفقة شاليط"، كما استشهد فتى لم يفرج عنه إلا قبل أسبوع واحد من استشهاده، ويتم الآن بحث مسألة نفي من اعتقلوا إلى غزة ونسف بيوتهم. هذا إلى جانب معاقبة الأسرى في معتقلات الاحتلال، الذين بلغ الإضراب الجماعي عن الطعام للمعتقلين الإداريين منهم الشهرين حتى الآن، بمنع زيارات ذويهم لهم، واستنان قانون يفرض تغذيتهم قسريًّا، بل إن وزيرًا دعا إلى إعدام الأسرى، وعضو كنيست إلى قتلهم، وهناك من الصهاينة من دعا في شبكات التواصل الاجتماعي إلى قتل فلسطيني كل ساعة حتى استعادة المستعمرين الثلاثة الذين أُسروا في الخليل…
والآن، ما هي باقي الاستهدافات الأخرى من وراء هذه الهيستيريا القمعية التي قلنا بأننا سنعرض لها فيما بعد؟
بدايةً، إن الصهاينة لا يفوتهم أن حملات البحث العسكرية التي يوالونها مهما عظمت واتسعت فهي لن تجديهم فتيلًا، ومثال فشلهم فيما حاولوه إثر أسر جنديهم جلعاد شاليط، بما في ذلك حرب رصاصهم المسكوب على غزة، ما زال ماثلًا أمامهم، لكنما صب حقدهم على الفلسطينيين وإرهابهم ومعاقبتهم جماعيًّا بذريعة هذه الحملة الباحثة عن جلاعيدهم الثلاثة هذه المرة تستهدف فيما تستهدف التغطية على فشلهم الأمني في وأد روح الصمود والمقاومة لدى الشعب الفلسطيني، ومحاولة منهم لطمأنة جمهورهم المرتعب لأدنى حادث يمس أمنه، وحجة لضرب بنى المقاومة في الضفة في محاولة منهم لاجتثاثها، إلى جانب الضغط على الأوسلويين لابتزاز المزيد من تنازلاتهم واستزادة مستويات تساوقهم مع استهدافات الاحتلال، ورسم لخطوطهم الحمراء للمسموح به من المحدودية البائسة لما دعيت بالمصالحة المفتقرة للجدية بين رام الله وغزة.
هذه الاستباحة للفلسطينيين، والمبالغة فيها، يقابلها، من أسف، شبه صمت عربي رسمي وشعبي مطبق، وتواطؤ دولي بائن، كان منه تأجيل ما تسمى بـ"الدول المانحة"، أو الممولة للسلطة، مؤتمرها المقرر هذه الأيام في أوسلو بناءً على طلب صهيوني، وسيل من الإدانات الأميركية والأوروبية لعملية الخليل مع التجاهل الكامل لهمجية ردة الفعل الصهيونية عليها… فماذا عن السلطة؟
من المفارقة أن ما يجري قد شكَّل فرصة لإعادة تواصل بعد قطيعة استمرت لعام بين نتنياهو ورئيس السلطة… هذه السلطة التي لم يك منها سوى ما اعتادته سياسيًّا وأمنيًّا، أي الإدانة للعملية، والمبالغة في التنسيق الأمني مع المحتلين درءًا لغضبتهم عليها، أو مواصلته كأمر "مقدَّس" وفق توصيف لرئيسها الذي توعَّد منفذي العملية بالمحاسبة… مواصلة شهد لها الصهاينة حين أعلنوا أن كل خطوات حملتهم التنكيلية الجارية تتم بتنسيق مع أجهزة هذه السلطة… إن أبسط دروس عملية الخليل تقول: ما دام هناك محتل فلا من قوة في الكون قادرة على إيقاف مقاومته…