مشهد المهاجرين العراقيين .. والهروب الى المجهول
عادل الجبوري
صور متعددة اختلفت في أشكالها وألوانها، لكنها التقت في جوهرها ومضمونها.
الصورة الاولى، تمثلت في والدي الطفلين اللذين غرقا وسط امواج البحر(حيدر وزينب)، وهما يحاولان الوصول الى "جنة الغرب الموعودة" ليستقبلا بالدموع والاهات جثماني طفليهما في مطار بغداد الدولي.
وللعلم فإن حيدر وزينب فارقا الحياة امام انظار والديهما، وبينما دفعت الامواج جثة الطفل الكردي السوري الصغير ايلان الى الساحل، دفعت بجثتي حيدر وزينب الى وسط البحر، لتستغرق عملية البحث والعثور على جثتيهما بضعة ايام.
الصورة الثانية، تمثلت بعودة عشرات العوائل –وبينهم نساء واطفال وشيوخ كبار-الى العراق، بعد رحلة شاقة محفوفة بالكثير من المخاطر، وبقدر ما كانت تلك العوائل فرحة ببقاء كل افرادها على قيد الحياة، ونجاتها من مغامرة خطيرة للغاية، فإن الحزن والانكسار والاحباط بدا واضحا على ملامح الوجوه، وبين ثنايا الكلمات، لان التجربة بمختلف جوانبها وابعادها المادية والمعنوية كانت مرة ومؤلمة الى اقصى الحدود، رغم قصر مدتها.
المهاجرون
الصورة الثالثة، وهي تكمل الصورة الثانية او العكس، فقد تمثلت بقيام اعداد غير قليلة من العراقيين الذين وصلوا بعد طول عناء الى عدد من الدول الاوربية-الغربية، بتقديم طلبات لاعادتهم الى العراق، والبعض منهم اوصل مطاليبه الى السلطات العراقية لتسهيل عودتهم، ومثل تلك المطاليب عكست حقيقة ان الذين نجحوا في الوصول الى مبتغاهم اصطدموا بواقع صعب ومؤلم، لا كما تخيلوا في اذهانهم بأنهم ذاهبون الى "جنة النعيم الغربية".
الصورة الرابعة، مواطن عراقي يشهر في لحظة غضب وانفعال سكينا بوجه شرطية المانية، ليكون الرد عليه باطلاق النار، ومجموعة عراقيين لقوا حتفهم داخل حافلة مبردة مخصصة لنقل المواد الغذائية في النمسا.
اوهام "جنة الغرب الموعودة" بين الخداع والاخطاء
ليست هذه الصور وحدها التي تشكل مشهد الهجرة العراقية الى الغرب، بل ان هناك صورا كثيرة، بيد ان الصور المشار اليها تشكل الاطار العام الذي يمكن من خلاله فهم ومعرفة حقيقة ما جرى ويجري على الارض.
ولا شك ان تلك الصور تُمثل في مجملها الحصيلة الاولية لنتائج ومعطيات موجة الهجرة التي انطلقت على حين غرة من سوريا والعراق ودول اخرى في المنطقة الى الغرب، وطبيعي ان النتائج النهائية ستكون اكثر ايلاما ومأساوية. ولعل جملة ملاحظات وإشارات وحقائق يمكن ان تجعل المشهد اكثر وضوحا، وتتيح قراءته بعمق وترو بعيدا عن التسرع والعاطفة والتسطيح.
ومن بين تلك الملاحظات والاشارات والحقائق:
-لم تحصل متغيرات كبرى ودراماتيكية مفاجئة يمكن ان تكون مبررا لذلك الاندفاع السريع لالاف الناس نحو الغرب، فالعراق منذ اثني عشر عاما يعيش ظروفا صعبة ومعقدة جدا، وسوريا منذ خمسة اعوام وهي تشهد حربا طاحنة ضد الارهاب، ولا يختلف الامر بشيء عن ليبيا ومصر ودول اخرى.
-المفارقة الغريبة العجيبة، ان الدول التي لاذ بها الهاربون من جحيم بلدانهم هي ذاتها ساهمت بشكل او باخر وبدرجات متفاوتة وبأساليب مختلفة في صناعة وايجاد المشاكل والازمات في بلدان المنطقة، او انها في ادنى التقادير لاذت بالصمت واكتفت بالترقب والمراقبة عن بعد.
-والمفارقة الغريبة العجيبة الاخرى، ان بعض الدول الغربية التي لاذ بها الهاربون من جحيم بلدانهم، كانت ومازالت تمثل مصدرا للارهاب، حيث قدم منها مئات الارهابيين وراحوا يقاتلون تحت لواء تنظيم داعش، وجبهة النصرة وعناوين ارهابية اخرى في سوريا والعراق وغيرهما.
أي ان تلك الدول الغربية تصدر الارهاب من جانب وفي الوقت ذاته تذرف الدموع على ضحاياه، وتفتح لهم الحدود على مصراعيها من جانب اخر.
-والقضية الاخرى، هي اذا كانت الدول الغربية لا تريد استقبال المهاجرين واللاجئين على اراضيها، فهل يعقل انها تعجز عن قطع الطريق امامهم من تركيا او من اليونان، بحيث لا تسمح لهم بالتدفق والاندفاع الى الامام نحو صربيا وهنغاريا والنمسا وبلجيكا والمانيا و،و،و،و... ؟.. وهل ان عصابات ومافيات تهريب البشر تمتلك قدرات وامكانيات تفوق قدرات وامكانيات دول متطورة لها اجهزتها ومؤسساتها وعلاقاتها وخبراتها وتجاربها؟.
-ولعل الانطباع العام ان من ينجح في الخلاص من بلده في عموم العالم الثالث ويصل الى الغرب، يمكن ان يحظى بحياة افضل في مختلف الجوانب، بيد ان واقع الحال مع الهاربين من جحيم بلدانهم مؤخرا، عكس صورة مغايرة بالكامل، اذ صدم هؤلاء الهاربون بالمعاملة القاسية من قبل اجهزة الامن والشرطة في شتى الدول الغربية التي وصلوا اليها، وبالاهمال المتعمد لهم، من خلال عدم توفير ابسط مقومات ومستلزمات الحياة المطلوبة، وفي مقدمتها الغذاء والدواء والسكن الملائم، ناهيك عن الاجواء الاعلامية والاجتماعية الرافضة لاستقبال المهاجرين، وكل ذلك يتنافى ويتقاطع مع مبادئ وشعارات حقوق الانسان التي يتشدق بها الغرب ليل نهار.
واذا كان ما حصل ويحصل مقصودا، فيمكن أن يفهم منه أنه اعادة انتاج لازمات ومشاكل المنطقة بصيغ واشكال ومظاهر اخرى، واحداث المزيد من الخلط للاوراق، واذا لم يكن مقصودا، فإنه يعبر عن قراءات خاطئة وتقدير سيء للامور من قبل القوى الغربية، وهذه ليست المرة الاولى التي تقع فيها تلك القوى بأخطاء وحماقات كبرى.
ومثلما يقال "رب ضارة نافعة".. فإن هجرة آلاف العراقيين، وما رافق مسيرتهم من مصاعب ومعوقات ومخاطر، اوجدت رأيا عاما رافضا لتلك الهجرة، بلورته بالدرجة الأولى المرجعية الدينية في النجف الاشرف، وقوى وشخصيات سياسية فاعلة ومؤثرة، ونخب فكرية وثقافية، وفئات وشرائح اجتماعية متنوعة، اعتبرت جميعها ان فكرة الهجرة وترك البلاد في هذا الظرف العصيب والحساس يعد خطأ كبيرا، في الوقت ذاته، رأت ان توفير الظروف الحياتية الملائمة، من خدمات وفرص عمل، لا سيما للشباب، ومعالجة المشاكل الامنية والسياسية والاقتصادية التي يرزح تحت وطأتها المجتمع يمكن ان يوقف نزيف الهجرة الى المجهول، وهذه بلا شك مهمة الدولة بالدرجة الاساس بمختلف مؤسساتها ومفاصلها، وبالتاكيد انها مهمة صعبة وعسيرة، بيد انها ليست مستحيلة.