أوروبا تغرق في شعاراتها أمام طوفان اللاجئين
وسيم ابراهيم
إذا كان الاتحاد الأوروبي يواجه أزمة لاجئين، كما يصر على الوصف، فهو غارق فيها تماما. إذا كان يواجه أزمة مع نفسه، وشعاراته وقيمه المعلنة، كما تردد منظمات حقوقية، فهذا التكتل على وشك سقوط أخلاقي بلا خجل.
في الحالتين النتيجة واحدة: سيل اللاجئين يواصل طوفانه، من دون أي أفق يبشّر بأن أوروبا ستنظم سيره في مجرى موحّد.
الارتجال يبقى هنا سيد الموقف. اليوم يعلنون شيئاً، وغداً ينفذون شيئا آخر. لا مانع في الكذب. لا مانع في النفاق، ولا مانع لدى رئيس حكومة المجر فيكتور أوروبان في إعلان الحرب. سياسة فاحشة. الوصف هو ترجمة لديبلوماسية الأمم المتحدة. ها هي تعبّر عن "صدمتها”، وتعلن أن ما يفعله الزعيم اليميني المتشدد "انتهاك للقوانين الدولية”.
إلى هنا أوصلت الأزمة انكشاف أوروبا: الأمم المتحدة تندد بانتهاكات دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. المعبد المزعوم لحقوق الانسان، يشهد دوس القوانين الدولية، تماما كما تفعل دول يعدّها في أسفل السلّم الديموقراطي. صور حملة القمع الشنيعة ضد جموع اليائسين، بلا حول ولا قوة، تصدرت شاشات وصحف العالم. أطفال رضّع يختنقون، في حضون أهلهم، بعدما رماهم الأمن المجري بقنابل الغاز المسيل للدموع. صغار وكبار يمشون بوجوه وأجساد مدمّاة. هلع وصراخ وبكاء وفوضى، كأن متاريس قوات الأمن تصد جموع أعداء يجب دحرهم بلا أي رحمة.
الأزمة مستمرة: الحدود المجرية موصدة تماماً. أوروبان لا يريد الاعتذار، يهدد بإذاقة اللاجئين مرارة يوم الأربعاء. الحجج التي قدمها كانت أقبح من ذنب. اتهم اللاجئين بانهم يستخدمون الأطفال، صغارهم ورضّعهم، "دروعا بشرية”.
القضية ليست حماية حدود "شنغن”، منطقة التنقل الحر لـ 26 دولة بينها المجر، كما كان يردد سابقا. مبرر الصد برأيه أكثر عمقا: "إذا تركنا المسلمين يستمرون في منافستنا، حينها سيتغلبون علينا عدديا”. يرى نفسه آخر حماة "أوروبا المسيحية”، وقضية صدّ "المسلمين” بالنسبة له محسومة: "إنها الرياضيات، وهذا لا يعجبنا”.
حبر الردّ على افتراء رئيس الوزراء المجري لم يجف بعد. منذ أيام فقط تحدث رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر عن تعارض ما تفعله بودابست مع "القيم الأوروبية”. قال إن هذه القيم، ذات "الجذور المسيحية”، تعني قبول الآخر، احترام الكائن الانساني وحمايته حينما يفرّ من ويلات الحرب والبؤس. من سيحاجج بالرياضيات، وبالغلبة العددية، كان عليه سماع أرقام يونكر. ذكّر بان حجم تدفقات المهاجرين واللاجئين لا تبلغ، (يجب التدقيق مليّا في الرقم)، سوى: 0.11 بالمئة من سكان تكتّل يزيدون عن 500 مليون نسمة.
لا شيء سينفع، لا منطق ولا شعارات. لم، ولن يتوانى أوروبان عن فعل شيء. أمكن توقع ذلك قبل الأزمة. حينما قامت "السفير” بتغطية طويلة من بودابست، العام الماضي، كان واضحا للعيان انتشاء سياسة لا تخضع لمنطق سويّ. هناك يسود تجييش التشدد اليميني، بأي ثمن، بما يجلب النصر الانتخابي. أوروبان يقود سياسة تطهير للتاريخ في متاحف بلاده. ينزل تمثالا في ساعات الفجر، للتحايل على اعتراض جماعات ناشطة كانت تتجمع لمنع إنزاله نهارا.
مؤسسات الاتحاد الأوروبي نفسها تعرف تمادي أوروبان، وهو لا يبالي بعدما حصّل غالبية كبيرة في برلمان بلاده. استطاع استفزاز النزعة الوطنية وتعصباتها، ليحكم مثل امبراطور. المفوضية الأوروبية رفعت قضايا أمام المحاكم الأوروبية لملاحقة انتهاكاته للقوانين الأوروبية: تكبيل حرية الصحافة، انتهاك استقلالية القضاء.
المفوض الأوروبي للهجرة ديمتريس أفرامابوليس أشار إلى عبث محاولة صد السيل. قال في خلاصة معبرة إن معظم اللاجئين قادمون من سوريا، وهم "يحتاجون جدا للحماية”. من يفكّر في الصدّ، سواء المجر أو غيرها، قال لهم المفوض: "ليس هنالك جدار لن تتسلقه، ولا بحر لن تعبره، إذا كنت هاربا من العنف والرعب”.
الارتجال لا يزال ربّان الابحار الأوروبي في الفيضان. إيصاد حدود المجر جعل سيل اللاجئين يحولون طريقهم إلى كرواتيا، آملين أن يعبروها إلى سلوفينيا، ومنها إلى النمسا المحاذية لحلم "اللجوء الالماني”. قالت الحكومة الكرواتية أمس الاول إن الحدود ستكون مفتوحة إلى جارتها سلوفينيا. أمس غيرت رأيها. أعلنت أن على الجميع تقديم طلبات لجوئهم داخل كرواتيا، لأن "الحدود مع سلوفينيا ستكون مغلقة”.
طلبت زغرب ذلك رغم أنها تواصل التذمّر: لا نملك الامكانات لاستضافة جموع القادمين. محاولاتها لإغلاق الحدود فشلت أمام اندفاعات الجموع. تراجعت عن إرسال قطارات وباصات مجانية لنقل اللاجئين العالقين أمام السد المجري. الوضع، باختصار، فوضى كاملة.
الحال في دول أخرى، فتحت أحضانها سابقا، ليست أفضل كثيرا. صارت حشود المنتظرين تتجمع على الحدود النمساوية مع الالمانية. برلين تفرض إجراءات رقابة حدودية، بمعنى أدق: لا تريد المزيد من اللاجئين. تتراخى قليلا، لكنها تعود إلى الالتزام بحاسبات سياستها الداخلية واشتباكها مع جبهة معارضة أوروبية تقودها المجر.
"ماما ميركل” باتت تفرمل حنانها تدريجيا. الصحافة الالمانية نقلت أن اجتماع المستشارة أنجيلا ميركل مع حكام الولايات الالمانية، يوم الثلاثاء الماضي، انتهى بمشاحنات حادة. هناك ولايات تشهد تدفق لاجئين أكثر من غيرها، وأخرى ليس لديها إمكانات للاستضافة بعدما فاض القادمون عن قدرة مراكز استقبالها. اعترض بعض الحكام على عدة نقاط: سياسة توزيع اللاجئين على الولايات، نقص الموارد، ثم طول مدة معالجة طلبات اللجوء قبل البت فيها.
المطلوب يعرفه الجميع، والخلافات حوله متواصلة: سياسة أوروبية مشتركة، موحدة، لإدارة الأزمة. يجب إيجاد مجرى واحد يمكن عبره قيادة سيل اللجوء وتنظيمه. المجر، مع سلوفاكيا وتشيكيا وبولندا، لا تقبل سياسة "تقاسم الأعباء”.
لكن سياسة "الحصص الالزامية” حجر أساس السياسة التي اقترحتها المفوضية الأوروبية. ما تريده بروكسل هو آلية دائمة لتوزيع اللاجئين، تخفف "العبء” عن دول الوصول، تحديدا عن المجر واليونان وايطاليا. اقترحت تجريب الآلية عبر فرض توزيع 120 ألف لاجئ. جبهة الرفض لم تقبل بأي شكل مبدأ "الالزام”. هددت باريس وبرلين بفرض القرار الأوروبي عبر تصويت بالغالبية. ذلك لم يردع المجر تحديدا، خصوصا مع انضمام دول البلطيق لمعسكر "حماة المسيحية”. يقولون إن هكذا خطوة قبول منظّمة للاجئين، ستعطي ضوءا أخضر لكل من يريد القدوم، ما سيجعل سيل اللجوء بلا توقف.
أمام هذا الانقسام، مع مسلسل تمادي المجر، بدأت بروكسل تتراجع. بعض المسؤولين الاوروبيين قالوا إنه يمكن التراجع عن نظام الالزام، وتوزيع اللاجئين عبر "حصص تطوّعية”. لمعرفة أين سترسو التسوية، يجب انتظار الاجتماع الطارئ لوزراء الداخلية الاوروبيين الاسبوع المقبل.
نجاح الخطة المقترحة من المفوضية سيعني تطبيق سياسة تفرض على اللاجئين أين سيعيشون. لا يمكنهم بعد ذلك الاصرار على "اللجوء الالماني”، ولن يجدوا حينها أي قوانين تساعدهم. الخطة تتضمن، لذلك، مراعاة أوضاع العائلات، بما يمنع تشتتها. تلتفت أيضا لمراعاة أوضاع الدول المستضيفة، خصوصا بما يضمن توزيع اللاجئين ذوي المهارات بشكل عادل. التوزيع سيتم وفق معياري عدد السكان والدخل الاجمالي، مع الاخذ بالاعتبار عدد اللاجئين الذين تستضيفهم الدولة وحجم البطالة فيها.
لمحاولة اقناع المجر، واحتواء أضرار حملتها القمعية، ستقترح بروكسل أيضا إقامة "قوة مراقبة للحدود الأوروبي”. ستكون قوة متعددة الجنسيات تدعمها وكالة "فرونتكس” الأوروبية للرقابة الحدودية. كل هذا يعني التركيز على صدّ اللاجئين، وإن لم يكن بوحشية المجر، لاقناعهم بوقف تغذية السيل. هذا ما يعنيه تماما "تعليق” العمل بنظام "شنغن”، عبر إعادة فرض الرقابة على حدود دول عديدة. الرقابة تدّعي محاربة التهريب، لكنها ترمي للصدّ والتيئيس من إمكانية العبور.
فشل مواز يسقط الانتقاد الرائج للاجئين، بأنهم يريدون "إنتقاء” الدولة التي يريدونها. حتى الآن فشل الأوروبيون أيضا في توحيد نظام اللجوء. القوانين تبتكرها الدول على كيفها، وفق المزاج بين فجور اليمين ومداراة اليسار. منطقة تحرك حر، هي "شنغن”، تفترض توحيد قوانين اللجوء. هذا بعيد عن الحصول. سويسرا العضو فيها غيّرت قوانينها: الهرب من الخدمة الالزامية السورية ليس مبررا لقبول طلب اللجوء. المجر باتت تقول علانية، على لسان حاكمها، إنها لا تريد، أو لا تفضل، قبول اللاجئين "المسلمين”.
أمام هذه الفوضى، الفشل بتفرعاته، لن يكون أمام حشود اليائسين احتمالات كثيرة. "ثورة اللاجئين” بدأت عمليا مع صدامات الأربعاء. التعنت بإغلاق حدود دول أخرى، كرواتيا أو سلوفينيا، وحتى المانيا، سيجعل السيل أمام احتمال واحد: إما الانطفاء، أو مواصلة اقتلاع السدود. بروكسل تقول إن الخيار الأخير، وفق "منطق الأشياء”، سيصنع مجرى القادم: لا جدار، ولا بحر، سيوقف الهاربين من الرعب.