المنطقة بين حرق الرضيع الفلسطيني وغرق الطفل السوري
عقيل الشيخ حسين
حملة التحريض الإعلامي الواسعة النطاق حول مشكلة اللاجئين السوريين في أوروبا تهدف إلى تمهيد الأجواء لأشكال جديدة من العدوان على سوريا. لكنها لن تفضي إلى أكثر مما أفضى إليه العدوان المستمر عليها منذ خمس سنوات.
من الآن، يمكن لاقول أن قضية اللاجئين، التي كادت أن تكون طيلة العقود السبعة المنصرمة قضية فلسطينية بشكل حصري، قد تراجعت إلى مؤخر المسرح في ظل تزاحم قضايا لاجئين أُخَر في أنحاء العالم المستهدف من قبل مشاريع الهيمنة والاستعمار الصهيوني والغربي.
وخلال الأيام القليلة الماضية، وفي غمار ما يسمى بـ "الهجرة السرية"، "اللاشرعية"، نحو أوروبا عبر البحر المتوسط، قفزت هجرة السوريين إلى المقام الأول. سابقة بذلك تلك التي كانت، وما تزال تتم انطلاقاً من الشواطئ الليبية.
مشكلة أوروبية ؟
وفي إطار تسليط الأضواء المكثفة على اللاجئين السوريين، أو بالأحرى على المشكلة التي تعيشها أوروبا بسبب اللاجئين السوريين، ظهرت على الصفحات الأولى من صحف العالم ووسائل الإعلام الأخرى صورة الطفل السوري الذي ألقت به الأمواج جثة هامدة على أحد السواحل التركية بعد غرق القارب الذي كان يقله مع أفراد عائلته نحو "شاطئ الأمان الأوروبي".
وبالطبع، اهتزت في العمق مشاعر الكثيرين في العالم إزاء هذا الحدث المفجع. لكن التعاطف لم يلبث أن انحسر سريعاً في ظل التركيز الواسع النطاق على مشكلة اللاجئين السوريين لجهة تداعياتها على المستوى الأوروبي.
الحدث المفجع لم يوظف بالشكل الذي قد يخدم في حل مشكلة اللاجئين السوريين عن طريق حل المشكلة السورية من أساسها، وبالشكل الأكثر انسجاماً مع مصلحة سوريا وشعبها وسائر شعوب المنطقة، بل بالشكل الذي يتعارض تماماً مع مثل هذا المسعى.
ماذا عن الأطفال الأُخَر؟
في اليوم نفسه الذي تزاحمت فيه وسائل الإعلام في العالم على نشر صورة الطفل السوري الغريق، لم يعبأ إلا القليل من مواقع التواصل الاجتماعي، ناهيكم عن وسائل الإعلام الواسعة الانتشار، بذلك الطفل اليمني الذي هشمته قذيفة سعودية لم تبقِ من رأسه ووجهه غير كتلة مدماة معفرة بالتراب.
أغراض مشبوهة وراء تسليط الأضواء على مشكلة اللاجئيين السوريين في أوروبا
ومن المؤكد أن اليوم نفسه شهد مقتل أطفال آخرين في سوريا وسائر المنطقة الممتدة من أفغانستان وباكستان إلى نيجيريا مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا والصومال بفعل القصف الأميركي أو الإسرائيلي أو السعودي، أو بفعل التفجيرات الانتحارية وأعمال الذبح التي تقترفها الجماعات التكفيرية العاملة في خدمة المشروع الأميركي-الإسرائيلي-التكفيري.
لقد قتل أكثر من مليون طفل في العراق وحده منذ بداية الغزو الأميركي مطلع التسعينات. ويصل الرقم إلى عشرات الملايين إذا ما أضفنا أعداد الأطفال الذين قتلتهم سائر الحروب الاستعمارية التي شنت على شعوب المنطقة.
لكن كل هؤلاء الأطفال، وغيرهم من بني البشر الأكبر سناً لم يحظوا مرة واحدة بكل هذا الاهتمام الذي حظي به مقتل ذلك الطفل السوري. وهذا الاهتمام نفسه لم يكن غير مدخل لشن حملة إعلامية واسعة النطاق تبدأ بالتركيز على معاناة أوروبا بسبب تدفق اللاجئين السوريين قبل أن تعود إلى الترويج للحلول التي لم تتمكن من فرضها الحرب المفروضة على سوريا منذ خمس سنوات.
وقد ظهرت في أوروبا مواقف مختلفة من مشكلة المهاجرين السوريين. أشدها تطرفاً بالمعنى السلبي تلك التي دعا أصحابها إلى إقفال الحدود في وجههم أو حتى إلى قصف مراكبهم وأغراقها قبل وصولها إلى الشواطئ الأوروبية. ولتبرير مثل هذه الإجراءات، ظهرت مقولات شددت على أن مشكلة اللاجئين السوريين تعرض منطقة شينغن للخطر، أو حتى تهدد الهوية المسيحية لأوروبا.
أما المواقف الأكثر ترحيباً باللاجئين السوريين فهي تلك التي تمثلت بتصريحات أعلن فيها مسؤولون كبار استعدادهم لاستقبال أعداد اللاجئين في منازلهم. وقد لوحظ أن رجب طيب أردوغان قد صب جام غضبه على البلدان الأوروبية التي لا تفتح حدودها أمام اللاجئين السوريين... فالسيد إردوغان هو، بين أعداء سوريا، أكثر من عبر عن رغبته في رؤية سوريا خالية تماماً من السكان.
وفي خضم الاقتراحات، ظهر اقتراح من النوع الذي يفتح جرحاً بليغاً في الذاكرة: استئجار جزيرة يونانية وتحويلها، فيما يبدو، إلى ... وطن قومي للاجئين السوريين... أو إلى دولة سورية في المنفى ... أو حتى إلى أي شيء من شأنه أن يفرغ سوريا من سكانها تمهيداً، على ما يحلم به أعداء سوريا من العرب وغير العرب، لاحتلالها من قبل بعض شركات الإسكان العابرة للقارات، ثم استيطانها من قبل أقوام تسمح لهم ظروفهم المادية بهجرة الصحراء أو المناطق التي تغطيها الثلوج ويكتسحها البرد طيلة أشهر كل عام.
أما الجيوش العربية التي قال جون كيري بأنها قد تتدخل برياً في سوريا، أو الغارات الجوية على سوريا والتي قد تشارك فيها طائرات فرنسية فيفترض بها أن تمهد الطريق أمام شركات الاستيطان المذكورة.
والأكيد أن فكرة استيطان سوريا (هناك تقارير تقول بأن 12 مليون سوري قد هجروا بلدهم حتى الآن) تستند إلى نجاح العصابات الصهيونية في استيطان فلسطين بقوة المذابح التي لن يكون آخرها إحراق الطفل الفلسطيني الرضيع.
لكنها لا تأخذ في الاعتبار أن هذا النجاح لم يكن ممكناً إلا في ظروف افتقاد فلسطين لمن ينصرها، وهي ظروف عفا عليها الزمن لأن من يمسك الآن بدفة السياسة في المنطقة هو محور المقاومة القوي المتماسك حول سوريا التي لا بد لها، شأن فلسطين وغيرها من البلدان المنكوبة، من أن تستعيد فراخها المشردين في أصقاع الأرض وأن تعود أقوى وأبهى مما كانت عليه قبل العدوان.