ماذا لو “بقي تنظيم الدولة وتمدّد”؟!
نبيل نايلي
”إن أي هزيمة لحقت بالتنظيم على الأرض منذ الحملة الجوية جرى تعويضها بالانتشار الإستراتيجي على أرض الواقع.. وهذه الهزائم لا معنى لها طالما أن الجماعة تضع لها موطئ قدم ليس فقط في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها ولكن في مناطق أخرى حيث تتوسّع بهدوء". مايكل واس، Michael Weiss ، صاحب كتاب ”داعش: داخل جيش الإرهاب".
ماذا لو بقيت دولة "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش” وتمدّدت؟ سؤال يجرّ معه سيلا من الأسئلة الأخرى ويحمل في طياته الكثير من الفرضيات، التي لا تمت بأية صلة بما يُراد لنا أن نقنع به من "حرب ضروس” وتحالف دولي وحملة عسكرية تستهدف اجتثاث التنظيم واقتلاعه! مع ذلك لا أحد من المعنيين الذين يكتوون الآن، أو ممّن ينتظرون نصيبهم من اللهب العدمي العاصف بالأخضر واليابس، لا أحد إسّاءل عن هكذا خيار أو فرضية، أو استعدّ لها، أو أجاب عن كيفية التعامل مع هكذا معطى أسلوبا وأداة!
أن يطرح هذا التساؤل الخطر محلّل وباحث أكاديمي وكاتب بحجم ستيفن آم والت، STEPHEN M. WALT، يعني أنّ مراكز الأبحاث الأمريكية و”دبابات الفكر”، باتت تتعامل مع المسألة على أنها لم تعد مجرّد "ترف فكري” أو تمرين استشرافي استراتيجي، بل ك”معطى موضوعي” صار لزاما التفكير فيه واستباق تبعاته!
يبدأ والت بشرح معنى نجاح تنظيم الدولة نافيا أن يعني ذلك أن يتمدّد ليبسط نفوذه من بغداد إلى الرباط، فما أبعد منهما، أو أن يُنصّب خليفة يقوم على شؤون المسلمين، فيختزل "قصة النجاح” على تركيز التنظيم لقوته في المناطق التي يسيطر عليها متحديا ومسفّها الإستراتجية الأمريكية، التي أوجزها الرئيس أوباما في ثنائية "الإضعاف فالتدمير، Degrade and Destroy”، ليطرح بعدها سؤاله: ماذا لو أضحى أمرا واقعا وكيانا حائزا على المقوّمات الأساسية التي تحضى بها الدول؟ مشروعية السؤال يعلّلها ستيفن والت للعجز الذي يعانيه الجيش العراقي في تنفيذ حملة مضادة على التنظيم ودحره، دون أن يشير طبعا لا إلى أن الجيش العاجز الذي يتحدّث عنه، هو مخاض برامج "التدريب” الأمريكي التي استنزفت 26 مليون دولار من الخزينة العراقية ويزيد، ولا إلى "عجز” هذا التحالف الدولي الذي يقصف إلى ما لا نهاية دون تحقيق نصر يتيم!
يستصرخ والت قرّاءه ألاّ يخطئوا مقصده، فهو سيكون "كغيره سعيدا إذا اختفى التنظيم وسُفّهت أطروحاته”، معلّلا سؤاله الجوهري، ب”أنّ المرء لا يخطّط فقط لما يريده أن يحدث، ولكن أيضا لما يرومه ولا يملك القدرة على تحقيقه”. ماذا نفعل في حال حافظ التنظيم على المساحات التي استولى عليها وأضحى دولة بالفعل؟
والت يجيب، وبلا مواربة، متفقا في ذلك مع أستاذ الآم آي تي، للعلوم السياسية، باري باوزن، Barry Posen ، "أن تعتمد الولايات المتحدة كما باقي الأمم، مع تنظيم الدولة تماما كما سبق واعتمدت مع الحركات الثورية في طور بناء الدول، Revolutionary State-Building Movements، مبدأ أو سياسة الإحتواء، Policy of Containment”. نعم "حركات ثورية” و”بناء دول” و”سياسة احتواء”!! لا ارهاب وإستراتيجية لدحرها ولا تحالف دولي ولا هم يحزنون!
يستحضر ستيفن والت بعدها التاريخ الإستعماري الهمجي والدامي لإمبراطوريات وأمم نحتفي اليوم ونتغنّى بسجلّها "الديمقراطي” و”قيمها الإنسانية”، ويضرب مثلا بأجداد البريطانيين الذين يشار إلى "مجدهم” بالبنان وهم الذين اقترفوا الفضاعات، ثم بهؤلاء الأمركيين "الأبطال بناة امبراطورية الديمقراطية”، وما اقترفوه بحق الهنود، سكان أمريكا الأصليين، من ذبح واغتصاب وتنكيل، فالبلاشفة والماويون، والصينيون فالوهابيون والصهاينة، كلهم في نفس الخانة ليخلُص كما شارلز تيلي، Charles Tilly، إلى "أن الأمم التي نعاصر تكونت عبر صيرورة دموية وهمجية وأن الحركات أو المنظمات التي أنشأت دولا فعلت ذلك مقترفة فضاعات وممارسات همجية، كنا سنندّد بها وندينها، فلا يحاولنّ أحدهم أن يقنعنا أن جميع الأمم "المتحضرة” متساوية جميعا في دماثة الخلق وإنسانيتها! "، والإشارة "العقلانية” الباردة برد مدرسة الواقعية، تؤشر في هذا الاستحضار للتاريخ الهمجي وتستبطن سؤالا أضحى استراتيجيون عديدون لا يتورعون عن طرحه: فيما ولماذا يشذّ تنظيم الدولة عن هذه "القاعدة”؟؟؟! "أليس قصف بريء بطائرة بدون طيار يعادل في همجيته ذبح آخر على يد عنصر من تنظيم داعش؟” يسّاءل الكاتب.
والفرضية أن يتم فقط "احتواء” التنظيم وليس دحره، ويتمكن من إنشاء مؤسسات حكم ثابتة، كهذه الولايات ال12- ولاية الرقة والميادين وولاية الحسكة وولاية دير الزور وولاية الجزيرة وولاية نينوى وولاية جنوب الموصل وولاية صلاح الدين وولاية الأنبار وولاية ديالى وولاية كركوك وولاية بغداد وولاية جنوب بغداد، مع ما تتطلبه كل ولاية من هذه الولايات من أمراء، يدير كل واحد منهم مفصلاً من مفاصل الولاية: كالأمير العسكري والإداري والإعلامي والأمني- وهذه الوزارات ال8 – الحربية والمالية والاقتصادية والمائية النفط والغاز والتخطيط والتربية والتعليم، والإعلام والإرشاد – التي سمح للتنظيم بتأسيسها وتعزيزها من خلال التعاون والتنسيق الذي جاوز تسليحها إلى تولّي تسويق النفط والغاز المستولى عليهما وإنشاء البنوك لأرصدته، أو من خلال التواطؤ أو غض الطرف عن عمليات التهريب التي لم توفر حتى التاريخ والتراث..ليسأل والت بعدها: إلى متى سيستمر هذا الوضع حتى يعترف بعض الجيران والمجتمع الدولي بتنظيم الدولة "كحكومة شرعية”؟
يقرّ والت أن ذلك الاعتراف يبدو اليوم من ضرب الخيال بل ومناف للعقل، ليستدرك بأن المجتمع الدولي كثيرا ما بدأ بشيطنة "الحركات الثورية” –نعم الحركات الثورية هكذا- ليعترف بها تدريجيا حين تُثبت قدرتها على البقاء! أ لم ترفض القوى الغربية الإتحاد السوفييتي لسنوات بعد ثورة 1917 البلشفية، وظلت الولايات المتحدة على رفضها حتى 1933؟ كذلك لم تقم الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية حتى سنة 1979، ثلاثين سنة بعد إعلان الجمهورية! وعليه "أ فلا يمكن أن نرى يوما تنظيم الدولة عضوا شرعيا ومعترفا به في المجتمع الدولي، بمقعد في مجلس الأمم”، يسأل ستيفن والت.
ليجيب "قد تقولون إنّ سلوك التنظيم الهمجي سيقصيه دائما من المجتمع الدولي ومن الأمم المتحضرة، وإنّ قادته سينتهون في سجون المحكمة الدولية كمجرمي حرب، لا كخطباء على منبر الأمم المتحدة، سيكون ذلك خبرا سعيدا، غير أن التاريخ حافل بالأمثلة الأكثر سخرية”!!!
يشير الكاتب بعدها إلى التغير الجذري المتعلّق بمقاييس القابلية أو الإعتراف بدولة ما وذلك مدى ما يفسّر حسب رأيه اشمئزازنا ونظرتنا الدونية للتنظيم. ثم يؤكد أن ذلك لا يبرر لداعش فظاعاتها بقدر ما يجب أن يذكرنا بأن حركات ومنظمات بدأت مثل داعش سلوكا ثم "أعترف بها حين حافظت على نفوذها طويلا.”!
أما كيف يقع تأهيلها والقبول بها بين الأمم، فيقترح والت، أن تتخلّى على بعض أو كلّ ممارساتها المتوحشة. ليستشهد مرة أخرى بصاحب "نظرية السياسات الدولية، Theory of International Politics، كينيث وولتز، Kenneth Waltz، الذي خلُص منذ ثلاثين سنة إلى ما مفاده، أن "الدول الراديكالية أصبحت بعد مدة طويلة إجتماعية –عدلت من سلوكها ليقبل بها النظام الدولي- ، لأنها اكتشفت مع مرور الوقت أن طموحاتها الأيديولوجية الكبرى غير قابلة للتحقق، وأن الوفاء للشعارات الثورية باهض الكلفة وغير مجدي، بل وعنصر تهديد لبقائها. لتقوم من داخلها أصوات تدعو إلى التأقلم واعتماد الحلول الوسطية والمقاربات البراغماتية. بدل إعلانها "ثورة عالمية” يصبح المطلوب مجرد "تحقيق اشتراكية داخل بلد واحد”، وعوض تصدير "الجمهورية الإسلامية أو الخلافة”، يصبح من الضروري التعاطي مع "الشيطان الأكبر والأصغر”!!!
فالدولة الحديثة سرعان ما تجد نفسها مضطرة للتأقلم مع متطلبات النظام الدولي وإكراهاته، لتخرج من ثوب "الحكومة المارقة” إلى الحليف خصوصا حين تتطابق مصالحها مع بقية هذه الأمم! ليقولها صراحة "إذا استمرت دولة التنظيم في البقاء وثبتت دعائم ملكها –بقت وتمددت- فهذا ما أعتقد أنه سيحصل”!!!
ستيفن والت، الذي لا يعبر عن نفسه فحسب، بل عن مدرسة ونهج في التفكير الإستراتيجي، يحاول التخفيف من الصدمة بقوله إن "صيرورة الترويض الاجتماعي” لتنظيم الدولة لن تحدث هكذا اتوماتيكيا، فالدول المارقة والمتوحشة لن تعي كلفة سلوكها الباهضة حتى تعمد أمم أخرى على فرض العقوبات الضرورية، وعليه فهو يطالب بقية الدول بالتّكفّل ب”تربية التنظيم طريقة العيش داخل النظام الدولي”!
ترى كم يقدّر هؤلاء الذين لا يرون مانعا في "تأهيل” و”إدارة توحّش المتوحشين” الكلفة الإنسانية والمادية والحيز الزمني والجغرافي الضروريين ليقبل هذا "المجتمع الدولي” بهكذا "حركة ثورية”؟؟
منذ أذن باراك أوباما بعمليات القصف الجوية ضد تنظيم الدولة، في السابع من أوت أغسطس 2014، في عملية وصفها بال”محدودة” ثم أضحت قصفا متواصلا لـ”القضاء المبرم” على داعش! سنة كاملة مرت منذ ذلك "التدخل”، قضى الآلاف من الأبرياء وشُنّت 5885 غارة جوية ويزيد، وبُدّدت المليارات من الدولارات التي سيؤمنّها "الحلفاء الصاغرون، The Compelled "، ولا يزال يزعم مسؤولون عسكريون أمريكيون لم يتردّدوا في تزوير التقارير، حدوث "تقدم بطيء وثابت” في الحرب ضد تنظيم الدولة، أين ومتى وكيف؟ لا نعلم! ثم يصرّح المتحدث باسم البنتاغون الكولونيل، ستيف وارن، بأنّ ”دولة الخلافة –هكذا سمّاها- في طور الانكماش"!
أما آن الأوان لكي نفكّر في جدوى وجدية هذا التحالف واستراتيجيات تعبّد الطريق للتعايش مع وحشية خلّقوها ويراد لنا أن نقبل بها كأمر واقع؟
هل يعقلون؟؟؟