لا جنيف حتى يصبح رأس ’داعش’ و’النصرة’ على الطاولة
لؤي حسن
الحياة كالملاكمة: أن تصمد وتتحمل وتنتظر المفاجآت (انيس منصور)
خبراء أميركيون يدرسون تقديم سيناريوات عن كيفية "التعايش” مع الأسد في الفترة المقبلة، جرى هذا بتوجيه من سوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي. المراقبون الغربيون تساءلوا عن سبب مبادرة رايس طالما أن واشنطن لا تعتقد بقرب حدوث تغيرات تؤدي الى التوصل الى حلول، يرد على ذلك مقربون من البيت الأبيض بأن رايس ارادت الحصول على سيناريو كيفية الاستمرار في التعاطي مع الأزمة السورية، خصوصاً مع الاعتقاد بأن "الأسد مستمر في الحكم في دمشق حتى ما بعد خروج أوباما من الحكم في واشنطن”. ومن يدري فقد يغادر الرئيس الذي سيليه البيت الأبيض هو الآخر، والأسد في "قصر الشعب” على رأس السلطة في بلاده. هذا الاعتقاد مبني على تحليل الوقائع ومراقبة مسار الأحداث، متجاوزين فيه الأماني او الرغبات.
الاسـتعصاء السـوري
يبدو أن الولايات المتحدة قد وصلت إلى حالة الاستعصاء سورياً. لذا فهي تروض نفسها على قبول سيناريو التعاطي مع الواقع السوري بوجود الأسد. وتحاول إقناع حلفائها الإقليمين بالأمر ذاته ليس من باب التسليم به بل من باب المناورة، والتي سنأتي عليها فيما بعد. أتى هذا تحت وطأة سلسلة من الخيبات؛ بدأت بالتعويل على ما سمِّي بـ "الجيش الحر” (لترويض) النظام، صاحبته انشقاقات - استعراضية - في بعض صفوفه بغية هز معنوياته، ليتضح لها بعد ذلك أن هذا الخيار كان خائباً؛ حيث اثبتت الممارسة تماسك النظام يقابله هشاشة الجيش المذكور، تنظيمياً، وعقائدياً بالأخص، فتحولت مجموعاته إلى عصابات معزولةٍ عن بيئتها، عالةٍ عليها، بحيث لم يستطع أن يصمد أمام ضربات تنظيمات "القاعدة”؛ وعليه انتقل الأمريكي للمراهنة على هذه الأخيرة. غير أن هذا خلَّف مأزقاً جديداً، وهو أن القيادات السياسية التي سعت واشنطن وحلفاؤها لاستنباتها في تركيا أو باريس بوصفها "معارضة معتدلة”، باتت بلا أذرع عسكرية، وبمعنى آخر غير مؤهلة لتكون يوماً ما طرفاً على "الطاولة” فيما لو انعقدت. وبالتالي -شريكا كما تشتهي واشنطن - في المعادلة السياسية "لسوريا الجديدة”؛ فيما هي لا تطمئن للقيادات السياسية التي لها أذرعٌ عسكرية فاعلة على الأرض من الفصائل الإسلامية. كل ما سبق بالطبع ينطلق من حقيقة يجب أن لا تغيب عن كل ذي بصيرة وهي ان مقولة الولايات المتحدة باسقاط النظام السوري مزحة ثقيلة لا تتحمل تداعياتها مع غياب البديل، أي إذا ما اصبحت سوريا نسخة ليبية أخرى، وهي تدرك ذلك. ربما الحالة الليبية مطلوبة أمريكيا واسرائيلياً كمصدر لاستنزاف جوارها وبالذات المصري. لكن الجوار في الحالة السورية هو من حلفاء امريكا المهمين، مما سيضعهم في مهب الريح على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما تستهابه،خشية خربطة لعبتها، وقد بدأ بالظهور الآن حيث اخذت ارتدادات الوضع السوري تضرب استقرار تركيا والسعودية !.
لقد كان ومازال جلُّ ما تهدف إليه امريكا هو نظام سوري ضعيف، يكون نظيراً "لحلفائها” من السوريين وبما يشكل مدخلاً لتركيب جمهورية هشة اشبه بـ”جمهورية الطائف” اللبنانية؛ جمهورية مخترقة امريكياً!. وفيما بعد مرتهنة اقتصادياً لحقن المصل البترو خليجي؛ تماماً كحال لبنان الآن! . ولهذه الغاية بالتحديد جاء المطلب الأمريكي: "رحيل الأسد” لكونه حجر القنطرة، أي مفتاح تماسك النظام بنيةً ووجهة استراتيجية. لكن الأماني شيء، فيما الواقع صدم الأمريكين. بعدة معطيات:
اولاً - ان الأسد صامدٌ جداً. بفضل تماسك المؤسسة العسكرية السورية بالمقام الأول، ورفدها بقوات الدفاع الشعبي على مختلف مسمياتها، ما أعطى المواجهة مع الإرهاب شكل وهوية الحرب الشعبية.
ثانياً - حصد الأسد على تماسكٍ جماهيري من حوله، غير مسبوق منذ بداية الأحداث 2011. هذا بعد أن لمس العديد من المضللين بؤس ما يسمونها الـ”معارضة معتدلة”؛ فمن هذه الأخيرة من تلوث بالتعامل مع "اسرائيل”، ومنها من فاحت رائحة مفاسده سرقةً للأموال التي قبضها باسم ما اسموها (الثورة)! .
إرهابيو "داعش”
ثالثاً - الأسد قوي بدعم حلفائه من المقاومة وبعض الفصائل الوطنية في لبنان وصولاً حتى طهران فموسكو، حيث اثبت هذا المحور بأنه أكثر تماسكا وجذرية من المحور المضاد، رغم كل المراهنات على خلق شرخ فيه، منها الحركات الصبيانية للسعودية التي اعتقدت بأن دولة عظمى مثل روسيا يمكن أن تبيع مواقفها وثوابتها الاستراتيجية في صفقات تجارية ببضع مليارات من الدولار! .
رابعاً- تمكن الجيش السوري وحلفاؤه من القتال، بثبات على انتشار مدروس فوق الأرض السورية من جهاتها الأربع، ما أسقط إمكانية فرض اي سيناريو تقسيمي بقوة الأمر الواقع .. وبالتالي فقد فرضت سوريا على اي "جنيف” قد تأتي، الانطلاق من أن وحدة أراضيها حقيقة يجب التسليم بها. خامساً – الوضع البائس للأذرع العسكرية الإرهابية التي تستخدمها امريكا، حيث يفترس بعضها بعضها الآخر، والمفارقة ان هذا يأتي على حساب بعض ميليشيات "النصرة” التي تدخرها امريكا لوظيفة سياسية كما سنبين لاحقاً.
بين الحرب والتسوية
ما يمكن قوله الآن ان العيون الأمريكية تتوزع بين الحرب، وبين الاستعداد للتسوية. الحرب لتحسين شروط تمرير تسوية مناسبة لها، غير أن هذه الأخيرة لم تستكمل بعد عناصرها من الوجهة الأمريكية وذلك على ضوء ما سبق ذكره. فالجماعات الإرهابية - الذراع الأمريكية - لم تتمكن في هذا السبيل من ان تحقق تقدماً نوعياً على الأرض يكسر المعادلة القائمة؛ فيما تحولت "داعش” -التي رعتها امريكا في يومٍ - إلى سرطان متفلت خارج عن السيطرة، وبالتالي فهي تسعى لتقليم استطالاته - ليس أكثر من تقليم - بعد أن أصبح انتشارها وقوتها خطراً حقيقياً وملموساً يهدد حلفاءها الإقليمين في الخليج. وهي بلا شك ستهدد تركيا على المدى المتوسط، إلا أن المفارقة ان تركيا الداعم الأساس لـ”داعش” باتت تعاني من ازداوجية توجسها من هذه الأخيرة من ناحية، والحاجة إليها من ناحية أخرى لاستنزاف الأكراد في الجزء السوري، وهذا بعد ان تعذَّر عليها إقامة شريط تحت سيطرتها في الشمال السوري.
أمام هذا المشهد المركب الذي يزيد من تعقيداته توسع قوة "داعش” على حساب "النصرة”، بات المسعى الأمريكي ينصب لإنقاذ الأخيرة. وتحت شعار "وحدة المعركة ضد الإرهاب”، مررت أمريكا عرضاً تحت الطاولة مؤداه تشكيل "تحالف” يضم سوريا والسعودية وايران وتركيا موجهاً ضد "داعش” وبغرفة عمليات موحدة. هذا العرض يقر ببقاء الأسد، ولكنه يندس كطعمٍ بهدف اصطياد ثلاث سمكات دفعة واحدة: الأول، رفع الضغط عن "النصرة” وترتيب صفوفها بما يتناسب والمرحلة!. والثاني، تحويل الجيش السوري إلى "دركي” لمطاردة "داعش” بالتحديد وإراحة البقية من عناء المهمة لكونه الأقدر والأكثر خبرة بطبيعة الحال!. ثالثاً، استدراج الجيش السوري ليكون نظيراً لميليشيات النصرة في إطار التحالف المقترح، وهذا يتيح في المستقبل وضع تلك المجموعات العسكرية في لعبة الأوراق المتقابلة على طاولة المفاوضات إذا ما جدَّ الجد لانعقادها. وكل ما سبق في مسعى يؤدي إلى جعل المجموعات المذكورة من مكونات الجيش السوري لاحقاً !..وهذا يشكل أحد المداخل لتكون واشنطن لاعباً في المدخلات السورية وفي مخرجاتها، سواء جاء هذا مباشرة أو مداورةً بواجهة سعودية، كما في لبنان تماماً.. هذا الحلف الهجيني أثار سخرية المعلم كما سمعناه، فهو لا يصب في مصلحة سوريا وحلفائها بالقطع.. عرض خلاصة خلاصته: اذهبوا وحاربوا بالنيابة عنا "داعش” والمغانم نقتسمها بيننا. الأسد يبقى في النظام. ولنا فيما بعد مفاصل البلد ومفاتيح اقتصاده. غير أن شروط المعركة تغيرت تماماً، وأهمها على الإطلاق أن لعبة الدم لم تعد قاصرة على سوريا، بل انتقلت إلى طابخي السم في انقرة والرياض. تركيا مع الأكراد، والسعودية الغارقة في المستنقع اليمني!. مما يفرض حلولاً تتعدى سوريا. ولهذا قال لهم الأسد بكل بساطة: اقلعوا شوككم بأيديكم، ولا جنيف قبل ان يصبح رأس "داعش” و”النصرة” على الطاولة!..