افق العلاقات الروسية ـ الإيرانية (2/2)
جورج حداد
من عرضنا المكثف السابق للأحداث في "الشرق الأوسط الكبير" في السنوات الماضية، يتبيَّن أن الدوائر الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية والتركية حققت نجاحًا كبيرا في تخريب وتدمير المجتمع العربي، الا انها فشلت في تحقيق أهدافها "البناءة" (حسب تعبير غونداليزا رايس) التي أرادت من خلالها التوصل الى إقامة أنظمة حكم وطيدة موالية للغرب، بما في ذلك زعزعة وضرب النظام الإيراني، وضرب روسيا من الداخل والسيطرة عليها وتطويعها بما يتماشى مع استراتيجية الهيمنة الأميركية على العالم.
وفي هذا السياق نجد من الضروري ان نذكر بالتحذير الذي سبق ان أطلقه قبل أكثر من سنتين أحد دهاقنة الاستراتيجية الأميركية، وهو سبيغنيو بريجينسكي، مستشار الامن القومي الأميركي في عهد جيمي كارتر، الذي نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية تصريحا جاء فيه انه يحذر الولايات المتحدة الأميركية من انها دخلت في علاقات صدامية عنيفة وكثيرة مع ايران، وان ذلك يمكن ان يقود الى حرب لها نتائج "كارثية"، حسب تعبيره، وقال "احسب، انه يمكننا ان نتجنب الحرب، باستخدام تدابير "تقسيرية"، كالعقوبات مثلا، بهدف إرغام ايران على التخلي عن برنامجها للتسلح النووي". ولكنه لاحظ انه بالرغم من ذلك "فبقدر ما يزيد استخدام الإكراه، فبهذا القدر، اذا لم يفعل الاكراه فعله، ينمو خطر الدخول في حرب. وهذا يحد بشدة من حقل المناورة امامنا".
وعبر بريجينسكي عن القلق الشديد من التصعيد "الخطابي" للتوتر بين الدولتين. وشدد على القول "لقد اتخذ عدد كبير من القرارات الصغيرة، التي تحد من حريتنا في العمل في المستقبل".
واعلن "اذا دخلنا في نزاع مكشوف مع ايران تحت اي شكل كان، فإن النتائج المترتبة علينا ستكون كارثية، جماهيريا وعلى نطاق عالمي".
اميركا تتراجع وتنسحب الى الشرق الأقصى
وامام الفشل الذريع لسياسة فرض العقوبات على روسيا وايران... وعدم قدرة الدبلوماسية الأميركية على اتقان سياسة اللعب على الحبلين في وقت واحد: دعم الإرهاب و"داعش"، وادعاء "مكافحتهما" في الوقت ذاته... وامام التقدم الاقتصادي والعلمي والعسكري السريع للصين، بالاستناد الى التعاون الواسع مع روسيا... وخشيتها ـ أي اميركا ـ من انضواء حلفائها التقليديين (تايوان، كوريا الجنوبية واليابان) تحت جناح الصين، او انهيارهم التام امامها...
وأمام هذه التطورات "غير المؤاتية"، وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها غير قادرة على ان تلقي بوزنها الاستراتيجي في الساحتين معا: الشرق الأوسط، والشرق الأقصى. فقررت الانسحاب التدريجي من ساحة الشرق الأوسط الصعبة والمعقدة، والتركيز على ساحة الشرق الأقصى، بحجة مواجهة خطر... كوريا الشمالية(!) على الامن القومي الاميركي، وخطر دكتاتورية كم جونغ اون على... القيم الدمقراطية الغربية او ما يسمى "اليورو ـ اطلسية".
روسيا وايران
الاتفاق النووي مع ايران
وكانت أبرز علامة لانسحاب اميركا من لعبة "الفوضى البناءة" في "الشرق الأوسط الكبير": الإعلان عن توقيع "الاتفاق النووي" مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ويشترط هذا الاتفاق بداية الرفع التدريجي للعقوبات عن ايران، مع التأكد التدريجي أيضا من ان الجمهورية الإسلامية لا تنوي انتاج القنبلة النووية.
السياسة الأميركية كلها مبنية على الكذب
يذكر العالم كله كيف وقف يوما وزير الخارجية الأميركي كولن باول أمام مجلس الأمن ليؤكد أن العراق كان يمتلك أسلحة للدمار الشامل. تحت هذه الحجة شنوا الحرب على العراق.
والواقع اليوم انه خلال السنوات الطويلة من الفيلم الأميركي الطويل للمفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، التي تعاقب فيها أكثر من وزير خارجية إيرانية وأميركية وغربية، فإن خبراء "وكالة الطاقة النووية العالمية" وجميع المخابرات الغربية (بما فيها طبعا الإسرائيلية) لم يقدموا ولو لمرة واحدة أي دليل ملموس على ان ايران تعمل فعلا لانتاج القنبلة النووية. أي ان فحوى تلك المفاوضات لم تكن اكثر من "محاكمة نوايا افتراضية" لدى ايران. وباسم تلك المحاكمة كان يجري التحضير للحرب الإسرائيلية (بتواطؤ عربي ـ تركي) على ايران، ونشر الدرع الصاروخية الأميركية ضد ايران، وفرض المقاطعة والعقوبات الاقتصادية على ايران، ومحاولة منع ايران من امتلاك برنامجها النووي السلمي، وهو حق مشروع لجميع دول العالم.
ومع اضطرار اميركا أخيرا الى الموافقة على "الاتفاق النووي الإيراني" انبرى جميع حلفاء اميركا الإقليميين لمطالبتها ليس بحمايتهم من القنبلة النووية الإيرانية، التي هم يعرفون انه لم يكن لها وجود أصلا، بل لمطالبتها بعدم الانسحاب من المنطقة الى الشرق الأقصى، وتركهم لمصيرهم المجهول.
ان الهدف الحقيقي للضغوط والمقاطعة والعقوبات والحرب النفسية والإعلامية التي مورست ضد ايران، تحت غطاء المفاوضات لمنعها من امتلاك السلاح النووي، كالهدف من الضغوط والعقوبات ضد روسيا، كان يتمثل في إضعاف هذين البلدين الشرقيين العظيمين الصامدين، وإرعابهما وتشجيع ما يسمى المعارضة "الديمقراطية" الموالية للغرب في كل منهما للاستيلاء على السلطة بالتعاون مع جميع اشكال الزمر والعصابات.
ولكن هذا المخطط فشل فشلا ذريعا، بل انقلب السحر على الساحر، واتخذ الفشل شكليا صيغة "الاتفاق النووي" مع ايران، للشروع في إزالة العقوبات عنها.
وبدون أي انتقاص من دور المفاوضين الإيرانيين السابقين، الذين كانوا يتعرضون لاشرس الضغوط والحرب النفسية، ولكنهم لم يتزحزحوا قيد انملة عن الدفاع عن مصالح بلدهم وشعبهم وشعوب المنطقة، لا بدَّ من التنويه بشكل خاص بالدور المميز الذي اضطلع به الدبلوماسي الإيراني الكبير محمد جواد ظريف، المتشبع بالمبادئ السامية للثورة الإسلامية الإيرانية والمؤمن بعدالة قضية شعبه، الذي ادار المفاوضات مع الممثلين الغربيين ليس من موقع "تقني" و"دفاعي" بل من موقع سياسي "هجومي" موضوعيا، عارفا بأصول واهداف اللعبة الدبلوماسية التي تدار، وكان ينطلق في مفاوضاته من قاعدة "نحن نعرف انكم تعرفون أننا نعرف انكم تكذبون".
وبالرغم من جميع التخرصات المعادية لإيران، فقد اعتبر وزير الخارجية محمد جواد ظريف ان توقيع الاتفاق النووي الإيراني ليس انتصارا شخصيا له، بل هو انتصار للشعب الإيراني والثورة الإسلامية الإيرانية و"المقاومة الإسلامية" بقيادة حزب الله، وخط المقاومة العالمية لسياسة الهيمنة العالمية وللامبريالية الأميركية والصهيونية.
السعودية أصبحت تميل لكسر جدار الجليد مع روسيا وايران
واثر توقيع الاتفاق قام محمد بن سلمان وزير الدفاع السعودي، برفقة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ووفد كبير مرافق، بزيارة روسيا، في منتصف شهر حزيران الفائت، لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي الذي تديره روسيا في بتروغراد، وأجرى لقاء خاصا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للبحث في اذابة الجليد وتطوير العلاقات الروسية ـ السعودية، ووجه سلمان دعوة باسم الملك سلمان بن عبدالعزيز الى الرئيس بوتين لزيارة السعودية لهذا الغرض، فقبل الرئيس الروسي الدعوة، ومن جهته جدد دعوته للملك السعودي لزيارة روسيا، وأعلن محمد بن سلمان ان والده قبل الدعوة وسيقوم بزيارة روسيا في وقت قريب. واعتبر المراقبون ان زيارة الأمير السعودي والوفد المرافق له الى روسيا تمثل خطوة على طريق كسر أحادية العلاقات السعودية مع اميركا، ونحو إقامة علاقات اكثر توازنا مع روسيا، مما سيساهم في تغيير وجهة الاحداث في الشرق الأوسط وفي سوق الطاقة العالمي.
نحو شراكة روسية ـ إيرانية كاملة
وفي 17 اب/اغسطس الجاري قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بزيارة الى موسكو، واجرى محادثات موسعة ومعمقة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حيث وصف المراقبون هذه الزيارة بأنها غير اعتيادية. وهي لم تكن مخصصة لبحث قضية معينة، بل لوضع الاطار العام للعلاقات الروسية ـ الإيرانية في جميع المجالات: السياسة الدولية، توحيد الموقف وتوزيع الأدوار في مختلف القضايا ولا سيما قضايا الشرق الأوسط، الشؤون العلمية والثقافية والإعلامية والمؤسسات الدينية والشؤون الاقتصادية والتكنولوجية ـ العسكرية، وعلم وصناعة الصواريخ، والعلوم الفضائية، وشؤون الطاقة (النفط والغاز والطاقة النووية)، توصلا الى تحقيق مبدأ التعاون التام والشراكة الكاملة بين روسيا وايران في جميع المجالات.
وقد تعهدت روسيا بأن تبني لإيران ثمانية مفاعلات نووية في المستقبل القريب. وقال محمد جواد ظريف ان روسيا هي شريك كامل لإيران في القطاع النووي. ويرجح بعض المراقبين ان تقوم روسيا بتأجير ايران مراكز علمية جاهزة ومستودعات تخصصية واراض كافية، خاصة بالتجارب والمواد النووية، بما في ذلك صناعة القنبلة النووية الإيرانية، اذا اقتضت الظروف ذلك، لانه اذا تعرضت ايران لاي استفزاز كبير او أي خطر وجودي، من قبل الكتلة الامبريالية الأميركية والصهيونية العالمية، فإن روسيا لن تكون "طرفا ثالثا" له حساباته الخاصة، بل ستكون حقا وصدقا شريكا كاملا لإيران في كل ما تتعرض له.