بداية تضعضع الزعامة الأميركية للكتلة الغربية
جورج حداد
القسم الثاني والاخير
ولكن هذه السياسة الرعناء، التي وضع لها جورج بوش عنوان "من ليس معنا فهو ضدنا”، أرعبت الدول الاوروبية الغربية ودول الاتحاد الاوروبي والناتو المضعضعة والمفككة المفاصل، وجعلها تنضوي بذعر تحت ذنب الثور الاميركي الهائج، وتنصاع لاوامره حتى ضد مصالحها القومية الخاصة. واذا كانت الصين الشعبية اخذت تعيد "حساباتها الاميركية” التي سبق ان دشنها دين هسياو بينغ (غورباتشوف الصين)، واذا كانت الهند اخذت تبتعد عن النفوذ الاميركي بالرغم من "التلاحم” الاميركي ـ الباكستاني، واذا كانت دول اسيا الوسطى الاسلامية (السوفياتية السابقة) والبرازيل وافريقيا الجنوبية وغيرهما من دول اميركا اللاتينية وافريقيا اخذت ايضا تبتعد عن النفوذ الاميركي، اذا كان ذلك كله صحيحا، فإن من الصحيح ايضا ان الزعامة الاميركية للكتلة الغربية (كندا، اوستراليا، اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، اوروبا الغربية ومذنباتها الصغيرة من دول اوروبا الشرقية والوسطى التي انضوت تحت ذنب الاتحاد الاوروبي والناتو)، ـ ان هذه الزعامة قد ترسخت بأفضل مما كانت عليه في اي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد تجلت تماما مطواعية الكتلة الغربية للزعامة الاميركية في الوقوف الى جانب السياسة الاميركية الرعناء، حتى ضد الشرعية الدولية التي تمثلها الامم المتحدة وضد المبادرات التي كانت تتقدم بها الدول الاوروبية بالذات، وهو ما ظهر بشكل مفضوح امام العالم اجمع في التخلي عن "اتفاقية دايتون” بشأن الازمة اليوغوسلافية وهي الاتفاقية التي تمت بوساطة اوروبية، ودعم قيام الناتو بخرق نظامه الذاتي ذاته (الذي ينص على " الدفاع المشترك” ضد الاعتداء على اي عضو في الحلف) وشن حرب جوية تدميرية ضد الشعب الصربي، ووضعه على حافة الفقر والجوع، فقط وفقط من اجل فصل كوسوفو عن صربيا، وتحويلها الى وكر كبير للمافيا الالبانية المتعاونة مع اميركا وبناء قاعدة "قلعة بوندستيل” اكبر قاعدة عسكرية وتجسسية وارهابية اميركية في اوروبا (يجري في هذه القاعدة تدريب خبراء الارهاب والمرتزقة الذين يتم تصديرهم الى الشرق الاوسط وروسيا وافريقيا وحيثما "تقتضي الضرورة” في البلدان الاوروبية ذاتها). ثم تجلت مطواعية الكتلة الغربية في دعم وتمويل الحرب الاميركية ضد افغانستان، ثم في العراق، وارسال القوات للمشاركة في ارساء "السلام الاميركي” (pax Americana) الذي نرى نتائجه الكارثية في هذين البلدين المظلومين. واخيرا تجلت هذه المطواعية في الحرب الناتوية ضد ليبيا، التي بدأت باعلان مناطق حظر الطيران، وتطورت الى قصف القواعد والقوات العسكرية والمرافىء والمطارات والمدن الليبية، وانتهت بتمزيق هذا البلد المظلوم شر ممزق، بحجة تخليصه من نظام القذافي ونشر "الديمقراطية”.
أبعاد المؤامرة على سوريا
وبعد تحقيق "انتصاراته” السابقة، وجه التيس الاميركي قرونه ضد الدولة السورية، بحجة اسقاط النظام الدكتاتوري السوري. ولكن الهدف الحقيقي كان اسقاط الدولة السورية ذاتها، وتسليمها لقمة سائغة الى عصابات "الاسلام السياسي” الآتية من العصر الحجري وعصر الكانيبال (أكلة لحوم البشر)، اولا من اجل اعادة ترميم الجسور بين اميركا وهذا "الاسلام السياسي” المتحجر. وثانيا، من اجل تحويل "امارة سوريا الاسلامية” المفترضة الى جسر يربط بين اليهودية الاسرائيلية والعثمانية التركية، المرتبطتين بالغرب الصليبي منذ عهد مملكة الخزر اليهودية في القرن الثامن. وثالثا، من اجل اسقاط لبنان والعراق واسقاط المنطقة بأسرها تحت براثن "امبراطورية عثمانية جديدة”، وتكوين محور استراتيجي ضخم " عثماني جديد ـ اسرائيلي” يمتد من صحراء النقب حتى البلقان واطراف القوقاز، ويقوم بتطويق وسحق القاعدة الثورية التي تمثلها "الجمهورية الاسلامية الايرانية”، ومن ثم التحضير لاشعال القوقاز ومحيط بحر قزوين وآسيا الوسطى بوجه روسيا، العدو التاريخي العنيد للكتلة الاستعمارية والامبريالية الغربية.
قرون "التيس” الاميركي تتحطم
ومثلما ان لكل شيء نهاية، كان لا بد ان تحل نهاية للعنجهية والعربدة الاميركيتين. الا ان هذه النهاية حلت بأسرع كثيرا مما كان يتصور جهابذة الطاغوت الاميركي، امثال كيسنجر وبريجينسكي وامثالهما.
فإن قرون "التيس” الاميركي سرعان ما تكسرت على الصخرة السورية، اولا بفضل الوعي الرفيع لجماهير الشعب السوري ذي التجربة الكفاحية العريقة، وفضح الطبيعة الحقيقية لعصابات الجيش العالمي لـ”الاسلام السياسي” العميل التي تكالبت على سوريا من كل حدب وصوب، وثانيا بفضل وعي ابعاد المؤامرة من قبل قوى المقاومة في المنطقة من لبنان الى ايران، وتوحيد صفوفها بوجه جبهة اميركا ـ اسرائيل ـ تركيا العثمانية الجديدة ـ "الاسلام السياسي” العميل. ولا بد هنا من التنويه بالدور التاريخي الحاسم الذي اضطلع به حزب الله في تحطيم المؤامرة على سوريا، بفضل حكمة وصلابة قيادة الحزب وعلى رأسها القائد الثوري العربي التاريخي السيد حسن نصرالله، وبفضل بطولات وتضحيات مجاهدي الحزب الاشاوس.
فشل امكانية التدخل العسكري الخارجي في سوريا
وقد استنجدت عصابات "الجيش العالمي للاسلام السياسي” العميل ومعها طبعا فلول ما يسمى "المعارضة السورية” العميلة، ـ استنجدت بأولياء امرها في اميركا وحلف الناتو والكتلة الغربية عامة، من اجل التدخل العسكري المباشر في سوريا، لتعديل ميزان القوى وحسم المعركة لمصلحة محور اميركا ـ اسرائيل ـ تركيا ـ الاسلام السياسي العميل. وحاولت اميركا وكتلتها الحصول على قرار من الامم المتحدة لتغطية التدخل العسكري ضد سوريا. ولكن الفيتو الروسي ـ الصيني، والموقف الروسي الصلب ضد التدخل العسكري الخارجي ضد سوريا، أفشل هذا المخطط، وفهمت اميركا وكتلتها ان العدوان على سوريا لن يكون نزهة كما جرى في ليبيا، وان اللعب بالنار في سوريا سينقلب على اصحابه ويحرق الناتو واميركا بالذات. وهكذا تركت عصابات الجيش العالمي للاسلام السياسي العميل تواجه لوحدها مصيرها المحتوم على ايدي جماهير الشعب السوري الابية والجيش الوطني السوري.
حماقة اميركية جديدة
وبعد انهيار المؤامرة الاميركية التي كانت مرسومة ضد سوريا وشعوب المنطقة وروسيا، ارتكبت القيادة الاميركية حماقة استراتيجية جديدة ستدفع ثمنها غاليا جدا، وستمثل بداية النهاية لهيبة ونفوذ اميركا ولوجودها كدولة كبرى على رقعة السياسة الدولية. وتمثلت هذه الحماقة في الرد على الهزيمة الاميركية في سوريا بالتحدي المباشر لروسيا وتنظيم الانقلاب الفاشستي في اوكرانيا في اواخر شباط 2014 وبدء الحملة العنصرية الفاشستية ضد الوجود الروسي التاريخي في اوكرانيا، وطرح الفاشست الاوكرانيين عملاء اميركا مسألة انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو في البرلمان الاوكراني. وكانت القيادة الاميركية تعتقد ان هذه الخطوة العدائية ستحشر السلطة الروسية بزعامة بوتين في الزاوية، وتمهد لحملة اضطرابات موالية للغرب في داخل روسيا وتحويلها الى "ثورة ملونة” يتم فيها اسقاط حكم بوتين وتنصيب حكم روسي عميل للغرب والعودة الى تطبيق سياسة غزو روسيا واستعمارها ونهب خيراتها غير المحدودة.
القبضة الحديدية الروسية
ولكن حكومة بوتين، ومعها الجيش الروسي الهائل والشعب الروسي العظيم، لم تتوان عن الرد السريع على الاستفزاز الفاشستي الاميركي، فتمت استعادة شبه جزيرة القرم الى الوطن الام روسيا، وتحركت ملايين الجماهير الروسية في اوكرانيا للمطالبة بحقوقها القومية المشروعة كجزء لا يتجزأ من الامة الروسية العظيمة، واعلنت روسيا ان عودة الفاشستية وانضمام اوكرانيا الى حلف الناتو المعادي لروسيا هو خط احمر يتوقف عليه لا مصير اوكرانيا بل ومصير اميركا واوروبا والعالم بأسره. وكان الرد الروسي سريعا وصاعقا الى درجة ان القيادة الاميركية وقفت مشدوهة لا تدري ماذا تفعل. وحينما كان فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، مع رهط من كبار المارشالات والجنرالات الروس الذين تعرفهم الميادين العالمية تماما، يحطون الرحال في سيباستوبول ويشرفون على استعراضات حربية ضخمة، بحرية وجوية، على كامل مساحة حوض البحر الاسود ومحيطه القريب والبعيد، في هذا الوقت كان بعض موظفي الادارة الاميركية الصغار يطلون من جحورهم برؤوسهم المذعورة ليدلوا بتصريحات خجولة بأن الولايات المتحدة الاميركية لا تعترف بضم شبه جزيرة القرم الى روسيا، وكأن احدا ينتظر هذا الاعتراف او يقيم له اي اعتبار.
أميركا تعاقب نفسها
وأخيرا تمخضت عبقرية جهابذة الدبلوماسية الاميركية عن سخافة فرض العقوبات على روسيا، التي هي ذات مفعول عكسي تماما. وقد صرح رئيس البيت الابيض باراك اوباما ان العقوبات لن تكون ذات فعالية الا اذا اجمعت عليها الدول الاوروبية بالاضافة الى اميركا. واصبح موضوع مشاركة الدول الاوروبية في العقوبات ضد روسيا بمثابة اختبار لاستمرار الزعامة الاميركية للكتلة الغربية. ونتيجة للغباء الاميركي وقعت الدول الغربية في دوامة الحيص بيص. فهي من جهة لا تريد إغضاب اميركا حتى لا تستفرد بجر العالم الغربي الى حماقات جديدة وخيمة العواقب، ومن جهة ثانية لا تجرؤ على إغضاب روسيا، وهي تدرك تماما ان العقوبات هي ذات مفعول عكسي، وهي تضر بالدول الغربية اكثر مما تضر بروسيا.
الدبلوماسية الاوروبية تتمرد على الزعامة الاميركية
ولم تستطع الدبلوماسية الاميركية جر الدول الاوروبية الى اتخاذ مواقف موحدة ضد روسيا. وفي تصريح امام وكالة اسوشيتد برس ادلى به السياسي البولوني المعروف الموالي للغرب ليش فالينسا عمم الصورة كما يلي: "ان العالم اصبح مشوشا، والقوة العظمى لم تعد تقوده”. وفي استطلاع للرأي العام الاميركي يقول 80% من المستطلعين انه "لا ينبغي ان ننغمس كثيرا في التفكير بالشؤون الدولية، وينبغي ان نركز تفكيرنا على شؤوننا الوطنية”. وهذا يدل على التعب من الحروب التي بدأها جورج بوش وورثها باراك اوباما. ان غالبية الاميركيين لم تعد تريد مغامرات جديدة في الخارج وتفضل انتهاج سياسة سلبية. وقد كتبت جريدة "نيويورك تايمز” انه في الاجتماع الاخير للدول السبع الكبرى G-7 (بعد استبعاد روسيا والغاء قمة الثماني الكبار G-8 التي كان من المقرر عقدها في سوتشي في روسيا، واستبدلت بقمة السبعة الكبار في بروكسل) فان الرئيس اوباما فشل في التوصل الى هدفه في اتخاذ موقف اميركي ـ اوروبي موحد حيال روسيا. وقد تسابق قادة بريطانيا، فرنسا والمانيا، لتحديد مواعيد للقاءات ثنائية مع الرئيس فلاديمير بوتين لدى زيارته لفرنسا لحضور الاحتفالات بذكرى انزال الحلفاء في النورماندي في الحرب العالمية الثانية. وهذا يدل على انهم غير موافقين على موقف اوباما الداعي الى ادارة الظهر لبوتين وعزل روسيا. وقد اكدت الحكومة الفرنسية انها ستواصل العمل في تنفيذ صفقة بيع السفن الحربية لموسكو، وبرنامج تدريب 400 بحار روسي عليها. واعلن الرئيس الفرنسي عن مواصلة العمل لتنفيذ صفقة تزويد روسيا بحاملتي طائرات الهليكوبتر الحربية من طراز "ميسترال”. واعلن انه هو وعدداً من القادة الاوروبيين الاخرين، وبالاخص المستشارة الالمانية ميركيل ورئيس الوزراء البريطاني كاميرون، ينوون اللقاء بالرئيس بوتين الذي سيحضر الاحتفال بذكرى الانزال في النورماندي. وقال اوباما ان اميركا ستدافع عن الحرية في اوروبا وعن الحركات "الديمقراطية” في العالم اجمع. وفي هذا الوقت انتقد الرئيس الروسي بشدة الامبريالية الاميركية، واكد ان السياسة الاكثر عدوانية في العالم هي السياسة الاميركية، حسبما جاء في جريدة "لوفيغارو” الفرنسية.