زيارة لاريجاني إلى موسكو وتسليم رسالة قائد الثورة لبوتين
الدكتور جلال جراغي
عندما يُوفد القائد الأعلى للقوات المسلحة الإيرانية مبعوثًا رفيعًا بحجم أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، محمّلًا برسالة خطيّة إلى زعيم الكرملين، فذلك يعني ببساطة أن مضمون الرسالة يتجاوز مجرّد المجاملات السياسية أو ملفات التعاون الاعتيادية والتقليدية.
ليست زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى موسكو مجرّد محطة دبلوماسية عابرة، بل تحمل في طيّاتها رسائل استراتيجية مشفّرة، اختار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، سماحة آية الله علي خامنئي، أن تُسلَّم مباشرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في لحظة إقليمية ودولية حرجة، تُعاد فيها صياغة خرائط النفوذ، وتُرسم فيها توازنات جديدة بالنار والرصاص.
فعندما يُوفد القائد الأعلى للقوات المسلحة الإيرانية مبعوثًا رفيعًا بحجم لاريجاني، محمّلًا برسالة خطيّة إلى زعيم الكرملين، فذلك يعني ببساطة أن مضمون الرسالة يتجاوز مجرّد المجاملات السياسية أو ملفات التعاون الاعتيادية والتقليدية، ويدخل مباشرة في صُلب الملفات الأمنية والعسكرية التي تمسّ الأمن القومي الإيراني والروسي على حدّ سواء.
لاريجاني لم يذهب إلى موسكو بصفته مسؤولًا بيروقراطيًا، بل كمبعوث خاص يحمل على عاتقه ملفًا بالغ الحساسية، يرجّح أن يكون مرتبطًا بتطورات المسرح الإقليمي، بدءًا من فلسطين المحتلة، مرورًا بالمنطقة، وانتهاءً بآسيا الوسطى، وهي مناطق باتت تمثل ساحة مواجهة مفتوحة بين محور المقاومة وحلف الناتو المتوسع شرقا.
اللافت في هذه الزيارة أنها تأتي في توقيت بالغ الدقة: الولايات المتحدة تصعّد تهديداتها، و”إسرائيل” تلوّح بالحرب، والتطورات الامنية في المنطقة بلغت ذروتها. في هذه الأثناء، تعمل طهران على تطوير قدراتها الدفاعية، خصوصًا في مجال الحرب الإلكترونية والصاروخية ومنظومات الدفاع الجوي، بالتعاون مع روسيا والصين، في تحالف ثلاثي يتعزز يومًا بعد آخر، رغم أنف العقوبات والحصار.
موسكو من جهتها تدرك جيدًا أن دعم طهران لم يعد خيارًا سياسيًا بل ضرورة وجودية، لأن إيران تحوّلت إلى الحلقة والخاصرة الجغرافية والاستراتيجية التي تربط بين الصين وروسيا، عبر آسيا الوسطى من جهة، ومن خلال الممرات القوقازية من جهة أخرى. ومن هنا، فإن المساس بهذه الحلقة يعني عمليًا استهداف العمق الروسي والصيني في آن معًا.
الرسالة الإيرانية -وإن لم تُكشف مضامينها علنًا – يُفهم من توقيتها أنها تحمل ردًا غير مباشر على التصريحات الإسرائيلية الأخيرة، التي حاول فيها بنيامين نتنياهو التظاهر بعدم الرغبة في التصعيد مع إيران. طهران لا تأخذ هذا الكلام على محمل الجد، وتدرك تمامًا أن “تل أبيب” ليست سوى أداة تنفيذ بيد واشنطن، والرد الإيراني، إذا جاء، فسيُوجَّه إلى الرأس لا إلى الذراع، أي إلى أمريكا لا إلى “إسرائيل”.
الزيارة تحمل أيضًا بُعدًا استباقيًا قبيل أي تفاهم محتمل بين بوتين والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فإيران التي خرجت عمليًا من عباءة الاتفاق النووي وقيود القرار 2231 باتت تتحرك بهامش أوسع، وتريد أن تضمن موطئ قدم ثابت في أي ترتيبات قادمة تخص أمن المنطقة أو مستقبل النظام الإقليمي الجديد.
الرسالة الإيرانية إلى موسكو هي رسالة قوة لا ضعف. طهران باتت اليوم طرفًا صانعًا للمعادلات، لا تابعًا لها. تمسك بزمام القرار في ملفات حيوية في المنطقة. ولمن لا يريد أن يفهم، فالصواريخ الدقيقة والمتوسطة والبعيدة المدى التي تمتلكها ايران في جعبتها كفيلة بإيصال الرسالة حين تعجز الكلمات.
أما ما يُشاع عن وساطة روسية بين طهران ودمشق في أعقاب زيارة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، بالتزامن مع زيارة لاريجاني، فهذه الفرضية – حسب مصادر مطلعة في طهران – ليست واردة أصلًا، ليس لأن إيران تُقلل من أهمية العلاقة مع سوريا في هذه المرحلة، بل لأنها ببساطة ترى أن الحكم في دمشق، بتركيبته الحالية، خاضع لضغوط إقليمية ودولية، ويصعب الوثوق باستقلالية قراره السياسي.
إيران، إن أرادت تطبيع علاقاتها مع سوريا الجديدة، فلن يكون ذلك عبر وساطة روسية، بل من خلال قنوات إقليمية ذات نفوذ وتاثير على دمشق، وفي مقدمتها دولة قطر أو المملكة العربية السعودية.
باختصار، لاريجاني لم يذهب إلى موسكو كساعي بريد، بل كرسول من قوة إقليمية تخطّط، وتصنع، وتربك حسابات العواصم الغربية قبل أن تُكتب على الورق. الرسائل تُسلَّم هذه الأيام من اليد إلى اليد، لا تُرسل بالبريد الدبلوماسي.