kayhan.ir

رمز الخبر: 214519
تأريخ النشر : 2025October17 - 19:21

اتفاقات إبراهيم: التحوّل الجيوسياسي في الخليج (الفارسي) وحدود التطبيع مع «إسرائيل»…

باسم الموسوي

تمثل اتفاقات إبراهيم، التي وقّعتها الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين مع “إسرائيل” في سبتمبر 2020، نقطة تحوّل مفصلية في التاريخ السياسي الحديث للشرق الأوسط. لم تكن هذه الاتفاقات مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل كانت تتويجاً لتحولات جيوسياسية عميقة، وإعادة تعريف للمصالح الاستراتيجية لدول الخليج(الفارسي) ، واخت باراً لحدود فكرة “التطبيع” في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

السياق التاريخي:   من المقاطعة إلى التنسيق السري

لطالما التزمت دول الخليج(الفارسي) ، بشكل رسمي، بموقف جامعة الدول العربية الرافض للتطبيع مع “إسرائيل” منذ مؤتمر الخرطوم 1967، الذي اشتهر بشعار “اللا للسلام، لا للاعتراف، لا للمفاوضات”. ومع ذلك، يشير كتاب “اتفاقات إبراهيم: دول الخليج(الفارسي) ، إسرائيل، وحدود التطبيع” لإلهام فخرو، إلى أن هذا الموقف العلني كان يخفي تحولاً تدريجياً في الخلفية.

ففي أعقاب فشل عملية السلام في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتصاعد التهديد الإيراني بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، بدأت دوائر صنع القرار في كل من أبو ظبي والمنامة والرياض في إعادة تقييم أولوياتها. لم يعد “الصراع العربي – الإسرائيلي” هو المحور الوحيد للسياسة الخارجية، بل برز “الخطر الوجودي” المتمثل في البرنامج النووي الإيراني وتوسع النفوذ الإقليمي لطهران. في هذا الإطار، رأت هذه الدول في إسرائيل – القوة العسكرية والتكنولوجية العظمى في المنطقة – شريكاً محتملاً في مواجهة هذا الخطر المشترك.

وقد تجلى هذا التوجه في علاقات سرية نشطة، كما تكشف فخرو، تمثلت في:

ـ التعاون الاستخباري: تبادل المعلومات حول الأنشطة الإيرانية وحركات الإسلام السياسي.

ـ التعاون التكنولوجي الأمني: قيام شركات إسرائيلية، مثل “NSO” المنتجة لبرنامج “بيغاسوس” التجسسي، بتزويد حكومات الخليج(الفارسي)  بتقنيات متطورة للمراقبة.

ـ تنسيق الجهود في واشنطن: قيام دبلوماسيين إسرائيليين وخليجيين بعمل lobbying مشترك لإقناع الإدارات الأميركية المتعاقبة بتشديد الموقف من إيران.

الدوافع: البراغماتية تتجاوز الأيديولوجيا

 يمكن إرجاع دوافع التطبيع إلى عدة عوامل مترابطة:

1 ـ التهديد الإيراني: شكلت الصواريخ الباليستية الإيرانية والميليشيات التابعة لها في العراق وسورية واليمن ولبنان مصدر قلق رئيسي لدول الخليج(الفارسي). اتفاقيات التطبيع كانت بمثابة تحالف استراتيجي غير معلن لمواجهة هذا المحور.

2 ـ تحوّل طبيعة القيادة: يمثل جيل القادة الجدد، مثل محمد بن زايد في الإمارات ومحمد بن سلمان في السعودية، نهجاً براغماتياً صرفاً. فهم أقلّ ارتباطاً بأيديولوجيا القومية العربية التقليدية وأكثر تركيزاً على الأمن القومي والتنمية الاقتصادية كأولويات قصوى.

3 ـ السياق الأميركي: أدى إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن “صفقة القرن” في يناير 2020، والتي تجاهلت بشكل شبه كامل الحقوق الفلسطينية الأساسية، إلى إرسال رسالة واضحة للدول العربية بأنّ الإدارة الأميركية لم تعد تعتبر القضية الفلسطينية محوراً لسياستها في الشرق الأوسط. في هذا المناخ، لم يعد التمسك بالرفض يحمل أية ضمانات أو مكاسب.

4. المصالح الاقتصادية: نظرت دول الخليج(الفارسي)  إلى الاقتصاد الإسرائيلي المتطور، خاصة في مجالات التكنولوجيا، والزراعة، والأمن السيبراني، والمياه، كشريك مثالي لمساعدة خططها الطموحة للتنويع الاقتصادي، مثل “رؤية السعودية 2030″ و”رؤية الإمارات 2021”.

الآليات: كيف تمت الصفقة؟

 يكشف الكتاب الدور المحوري لإدارة ترامب، وخاصة مستشارها جاريد كوشنر، في صياغة الاتفاقات. فقد تحوّل تركيز واشنطن من محاولة إحياء عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية المستعصية إلى بناء تحالف إقليمي واسع ضد إيران. ووفقاً للكتاب، فإنّ الإمارات عرضت التطبيع الكامل مع “إسرائيل” مقابل تنازل واحد: تجميد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لخططه لضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية.

كانت هذه الصيغة مثالية للجميع: فقد سمحت للإمارات بتقديم نفسها كمنقذ للأراضي الفلسطينية، ومكنت نتنياهو من تحقيق إنجاز تاريخي دون دفع الثمن السياسي للانسحاب من المستوطنات، وقدّمت لإدارة ترامب انتصاراً دبلوماسياً في فترة ما قبل الانتخابات. لكن الكتاب يؤكد أنّ نتنياهو تراجع فور إعلان الاتفاقية، مؤكداً أنّ الضمّ “مؤجل” وليس “ملغى”، مما كشف عن محدودية الضغط الإماراتي.

التبعات والحدود: ما الذي تغير فعلياً؟

 بعد أكثر من ثلاث سنوات على التوقيع، يمكن رصد تبعات واضحة للاتفاقات:

ـ التبادل الاقتصادي والتكنولوجي: شهدت العلاقات الاقتصادية بين الإمارات و”إسرائيل” خاصةً طفرة حقيقية، مع توقيع اتفاقيات شراكة في الطاقة، والتكنولوجيا، والصحة، وقيام صناديق الثروة السيادية الإماراتية باستثمار مليارات الدولارات في الشركات الإسرائيلية. كما فتحت أبواب التعاون في مجالات الأمن الغذائي وإدارة المياه.

ـ التعاون الأمني والعسكري: تطور التعاون إلى مستوى متقدم، بما في ذلك المشاركة في مناورات عسكرية مشتركة، وتأسيس تحالف دفاع جوي إقليمي بقيادة أمريكية، وبيع أنظمة دفاع إسرائيلية (مثل “باراك” و”SPYDER”) لدول الخليج (الفارسي).

ـ الانقسام الخليجي: كشفت الاتفاقات عن شرخ في المواقف داخل مجلس التعاون الخليجي. بينما سارعت البحرين والمغرب والسودان إلى التطبيع، أصرّت كلّ من الكويت وعُمان وقطر على موقفها الرافض للتطبيع في ظلّ غياب حل عادل للقضية الفلسطينية. حتى السعودية، رغم التنسيق الأمني غير المعلن مع إسرائيل، حافظت على تمسكها الرسمي بمبادرة السلام العربية.

ـ “غسل التسامح”: استخدمت الحكومات في البحرين والإمارات خطاب التطبيع لتقديم صورة عن نفسها كدول “متسامحة” و”معتدلة”، في محاولة لتحسين صورتها الدولية وصد انتقادات حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بقمع المعارضة في البحرين.

حدود التطبيع: اختبار غزة 2021 و 2023

 كانت الأحداث الأكثر دلالة على “حدود التطبيع” هي الحروب الإسرائيلية على غزة في 2021 وخاصة الحرب المدمرة التي began في أكتوبر 2023. فقد كشفت هذه الحرب عن هوة عميقة بين حكومات التطبيع والرأي العام العربي الذي لا يزال متعاطفاً بشدة مع القضية الفلسطينية.

اضطرت حكومات الإمارات والبحرين إلى إصدار بيانات دبلوماسية متوازنة تدعو إلى “التهدئة” و”حماية المدنيين” دون إدانة صريحة لـ “إسرائيل” في كثير من الأحيان. ومع ذلك، شهدت الشوارع في Manama احتجاجات شعبية غاضبة، وظهرت انتقادات لاذعة على وسائل التواصل الاجتماعي في الإمارات. هذا التناقض بين سياسات الدولة ومشاعر الشارع أظهر أن التطبيع، رغم كونه واقعاً قائماً، يبقى هشاً وغير جذور شعبية، وأن القضية الفلسطينية ما تزال حية في الضمير العربي.

الخلاصة

 اتفاقات إبراهيم لم تكن “سلاماً” بالمعنى الكلاسيكي، فهي لم تنهِ حالة صراع بين دول ذات حدود متنازع عليها. لقد كانت، في جوهرها، إضفاء الطابع الرسمي على تحالف استراتيجي قائم بالفعل. لقد نجحت في كسر الحاجز النفسي للتعامل العلني مع “إسرائيل”، وعززت المصالح الأمنية والاقتصادية لدول الخليج (الفارسي) على المدى القصير.

لكنها، من ناحية أخرى، كشفت عن أزمة النظام الرسمي العربي، وتهميش القضية الفلسطينية، والشرخ بين النخب الحاكمة والجماهير. حدود هذا التطبيع تبدو واضحة: فهو قادر على بناء تحالفات بين الحكومات، لكنه عاجز عن صنع سلام حقيقي يلامس جذور الصراع، وعن كسب قلوب وعقول الشعوب العربية التي لا تزال ترى في فلسطين قضيتها المركزية. مستقبل هذه الاتفاقات، إذن، مرهون بقدرتها على تجاوز كونها صفقة بين النخب إلى مشروع شامل للسلام، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظلّ الاستمرار الواضح للاحتلال.