إخفاقات ترامب من أوكرانيا إلى غزة
ناصر قنديل
– يريد البعض أن يقتنع أن كل ما تُقدم عليه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعبر عن خطط مدروسة بعناية وعن تفاصيل مبرمجة على جدول زمني، ويجب التدقيق في كيفية إدارة الرئيس ترامب لملف الحرب الأوكرانية من أجل أن ينتبه هؤلاء إلى حقيقة أن غالبية طروحات وتصورات ترامب يغلب عليها الطابع الاستعراضي، بحيث يجري إطلاق الخطوة الأولى لمشروع متعدد الخطوات، والرمي بالثقل المعنوي لمكانته ومكانة أميركا على أمل أن يملأ الفراغات خلال المسار العملي للخطوة الأولى نحو بلورة الخطوة الثانية وما بعدها هكذا تباعاً، لأن الرئيس ترامب ينطلق في مشاريعه من الحاجة لتحقيق إنجازات في ولايته الرئاسية على الصعيد الخارجي بعدما اصطدم بعقبات كبرى عطلت فرص الإنجازات الداخلية، ولأن أميركا لم تعد تملك القدرة على فرض إرادتها وفق تصوّرات مسبقة تضعها وتلزم الآخرين على السير بها.
– لا تزال خطة ترامب لإنهاء حرب غزة في أيامها الأولى ولا يزال الانبهار سيّد الموقف، وتدور التحليلات مرة حول الضغط على نتنياهو فيتفاجأ الذين يقولون ذلك بتصرف ترامب عندما يرونه يتماهى مع نتنياهو، ومرة يتحدث آخرون حول التزام ترامب بالسعي لخدمة خطة نتنياهو فيتفاجأ هؤلاء بأن ترامب ينتقد نتنياهو أو يتحرك بعكس اتجاه ما يريده نتنياهو، وذلك عائد إلى ارتباك ترمب نفسه وعدم وضوح الصورة لديه، وتركيزه على الطابع الاستعراضي والتجريبي ضمناً، لملء الفراغات في آليات تطبيق ما يفترض أنه خطة وهو لا يعدو كونه مجرد خطوط عريضة، كحال ما وقع عليه ترامب وقادة الدول الذين شاركوه ما عُرف باتفاق إنهاء الحرب، خلال قمة شرم الشيخ، حيث النص الذي وقّع عليه ترامب وقادة تركيا ومصر وقطر ليس إلا مبادئ فضفاضة يشبه التوقيع عليها التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة مرة ثانية، لأن لا شيء فيها له صلة بالسياسة ولا بكيفية حل المعضلات التي بدون حلها لا يمكن ضمان إنهاء الحرب، أي صناعة الاستقرار، ويكفي القول إن نصاً يفترض أنه يتصدى لصراع عمره ثمانية عقود عنوانه فلسطين لم يتطرّق لكيفية حل هذه القضية.
– خلال شهور طويلة تكرّرت وعود ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا، هو يتباهى بأنه أوقف ثمانية حروب لا يعرف الناس عنها شيئاً، فهل كان هناك فعلاً حرب هندية باكستانية أم مناوشات حدودية لا يريد الطرفان تحويلها إلى حرب، ومثلها بين كمبوديا وتايلاند، ولم يكن هناك حرب أذربيجانية أرمنية، وهل كان هناك حرب إثيوبية مصرية، أو صربية كوسوفية؟ وهل تمّ التوصل إلى حل للنزاع بين رواندا والكونجو؟ ويكتشف أي باحث ومدقق أن ترامب استعراضي يتباهى بإنجازات أغلبها وهميّ، وحرب أوكرانيا خير مثال، وهو قال في حملته الانتخابية إنه قادر على إيقافها خلال 24 ساعة بمجرد أن يصبح رئيساً، ومرة يطرد الرئيس الأوكراني من البيت الأبيض ومرة يعده بصواريخ بعيدة المدى لأن الرئيس الروسي يصبح شريراً بنظره بعد رفضه السير بوقف إطلاق نار دون اتفاق كامل، ثم يعود كما حدث بعد قمة آلاسكا يوزع التفاؤل بأنه يسيطر على الوضع ويملك خطة لإنهاء الحرب، وبعد أيام يتحدث عن الفشل واليأس والانسحاب من مساعي إيقاف الحرب.
– في حرب غزة الأكيد أن إيقافها صار مصلحة أميركية إسرائيلية، بعدما فشلت حرب الإبادة بتهجير الفلسطينيين كهدف أميركي إسرئيلي كان ترامب أول دعاته، وبقدر ما صارت الأرباح معدومة تكاثرت الخسائر حتى صارت لا تحتمل مع تنامي حركة الاحتجاج العالميّة ضد الحرب وصولاً إلى تراجع هائل في الرأي العام الأميركي لمؤيدي الحرب، بل لمؤيدي موقف ترامب إلى جانب “إسرائيل”، إلى الحدّ الذي صارت بيئة الحزب الجمهوري ومجموعة مافا المساندة لترامب والكنيسة الإنجيلية المؤيدة لترامب و”إسرائيل”، في موضع انتقاد الحرب باعتبارها مخالفة للمعايير الأخلاقية والدينية، ولأن وقف الحرب بشروط تناسب المقاومة مستحيل أميركياً وإسرائيلياً، لأنها هزيمة مدوّية، كان المطلوب التلاعب بصيغة وقف الحرب وأخذها إلى الغموض الذي يقوم على تجاهل القضية الفلسطينية ويسلّم بسقوط التهجير، ويسعى لمقايضة سلاح المقاومة بإعادة الإعمار وتوفير شروط العيش الآدميّ لسكان غزة، واستبدال السعي لتهجير سكان قطاع غزة بشطب الهوية الفلسطينية عن غزة وجعلها ولاية دولية يحكمها مجلس وصاية أجنبيّ وتضمن أمنها قوة دولية.
– هذه العناوين التي لم تقبل بها المقاومة بقيت عائمة، وصار الاتفاق مجرد وقف الإبادة وتبادل الأسرى وانسحاب جزئيّ وفك جزئيّ للحصار، وصار تشكيل مجلس الوصاية معضلة ومثله تشكيل القوة الدولية، حيث ترفض “إسرائيل” أيّ إطار أممي لذلك ويتمسك المطلوب منهم المشاركة في المجلس ولاقوة بالعبور من خلال مجلس الأمن الدولي، كما يتمسكون بأفق سياسيّ يتصل بحل الدولتين ولو كشعار والدولة الفلسطينيّة كأفق، وهو ما ترفضه إسرائيل بصورة قاطعة.
– ترامب ينجح دائماً بإطلاق المبادرات وتسويقها إعلامياً، لكنه يعجز عن إكمالها، لأنه محكوم بالحاجة للحركة، من دون أن تملك أميركا القوة اللازمة لفرض حلقات متسلسلة واضحة لخطة تبدأ من المبادر وتصل إلى الهدف.