عيون لا تُطفَأ: حين تتحوّل العتمة إلى بصيرة
د. فاطمة علي الموسوي
مقدمة
في تلك اللحظة التي انفجر فيها البايجر، لم يُطفأ نور عيون المقاومين وحسب، بل انكشفت فجأة هشاشةُ العالم الذي نظنّ أنّه قائم على الرؤية.
كأنّ الكون أراد أن يقول لنا إنّ العين، التي تغترّ بقدرتها على اقتناص الأشكال، ليست أكثر من نافذة صغيرة على هاويةٍ لا تُقاس بالضوء.
إنّه انفجار لم يقتصر على حجارةٍ وأجساد؛ بل انفجارٌ في فلسفة الوجود نفسها: ماذا يبقى من الإنسان حين تسقط الصورة ولا يبقى سوى اللمس الداخلي، سوى إدراكٍ بلا ألوان ولا ظلال؟
الإنسان، منذ فجره الأول، عاش في وهم أنّ النور هو شرط الحقيقة.
من كهف أفلاطون إلى شاشات عصرنا، ظلّ يعتقد أنّ الخلاص في الانتقال من الظلّ إلى الضوء.
لكن مقاومي البايجر، وقد خُطف البصر من وجوههم، أظهروا أنّ النور ليس ما تلتقطه الحدقة، بل ما يتولّد في أعماق الروح ساعةَ يُحجَب المرئي.
إنهم يُعيدون تعريف المعرفة: الرؤية ليست فعل عين، بل فعل كينونة؛ إنها اهتداء القلب إلى المعنى حين ينكسر الجسد.
هناك، في تلك اللحظة التي تهاوت فيها الشبكيات، كان الدماغ يبتكر خرائط جديدة، والحواس تنسج مسالك لم تكن معروفة.
لكن ما يدهش ليس تكيّف الخلايا، بل صمود المعنى.
فالظلام الخارجي حرّر طاقةً خامدة، وكأنّ إطفاء الضوء كان ضرورة ليتفجّر فيهم ذلك النور الباطني الذي يجهله علم الأعصاب ويعرفه العارفون.
إنها تجربة تُثبت أن الجرح قد يكون بوّابة، وأن العتمة ليست نقيض النهار بل رحمُه الخفي.
ولأنّ التاريخ يصرّ على أن يكتب دروسه بالدم، تستحضر هذه الفاجعة ذكرى كربلاء:
الإمام الحسين الذي واجه ليل السلطة بشمس الموقف، والسيدة الزهراء التي علّمت أن الدمعة يمكن أن تصبح بياناً أبدياً.
وما جرى في البايجر هو صدى لذلك الدرس الخالد: أنّ الحقيقة لا تُقاس بكمّ الضوء، بل بصلابة الموقف، وأن النور الأصفى يولد أحياناً من أعمق العتمات.
البصيرة… حين يهزم الجسد
حادثة البايجر ليست مجرّد انفجار، بل لحظة فلسفية تكشف أن الجسد هشّ، وأن العين أداة لا غاية.
العين التي تذرف دمعةً من دمٍ تُعيدنا إلى دمعة السيّدة فاطمة الزهراء وهي ترى النبوّة تُحاصر وتستشعر مصير أبنائها، وتُعيدنا إلى السيّدة زينب وهي تلمح المذبحة ثم تقف شامخةً لتقول: ما رأيتُ إلاّ جميلاً.
هكذا يكتشف المقاوم أنّ العمى ليس ظلمة، بل تجلٍّ: فالأشياء تنكشف بحدسٍ داخليّ، يخرق الحجاب بين الدنيا والمعنى، بين العين والقلب، بين الألم والسموّ.
نساء وأطفال… جراح تتكلّم
ليس الرجال وحدهم من دفعوا ثمن الانفجار. نساءٌ كنّ يحضن الحياة في أكمامهنّ، وأطفالٌ كانوا يلهون ببراءةٍ تشبه الحلم، وجدوا أنفسهم في مواجهة النار ذاتها.
وجوه صغيرة تشقّقت من شظايا الحديد، عيون غضّة تحوّلت إلى مساحات صمتٍ تنزف ضوءاً، وأمهات يضمّدن أجساد أبنائهنّ بأصابع مرتجفة وقلوبٍ صلبة.
هؤلاء النساء يشبهن فاطمة الزهراء في وقفتها الأولى حين رأت الظلم يطرق بابها، ويشبهن زينب وهي تحوّل الألم إلى خطابٍ للخلود.
إنّ جراحهنّ ليست حكاية ضعف، بل إعلان أن المقاومة ليست حكراً على الرجال؛ إنها فعلُ حياةٍ يكتبه الجميع، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، بدمهم ودموعهم معاً.
فلسفة الألم
الألم هنا ليس قيداً، بل معبرٌ إلى الحرية. إنه امتحان الروح في قدرتها على أن تجعل من العجز قدرة، ومن الفقد امتلاء.
هؤلاء الجرحى، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يذكّروننا بأنّ الفلسفة ليست كتباً تُدرَس، بل لحظة وجودية نعيشها حين نفقد كل شيء ونبقى نحن.
إنهم يعلّموننا أنّ النور الحقيقيّ يبدأ من الداخل، وأنّ كل عينٍ ترى العالم، عاجزة إن لم تتّسع لتراه بقلبها.
رسالة إلى العالم
إلى كلّ من يظنّ أنّ القوّة في السلاح، يقول هؤلاء: القوّة في القدرة على الصمود بعد الانفجار، في ابتسامة رجلٍ أطفأ الحديد عينيه ولم يطفئ روحه.
إلى كلّ من يغرق في استهلاك الصور، تهمس النساء اللواتي فقدن أبناءهنّ: نحن الذين فقدنا الصورة لندرك جوهر الوجود.
إلى كلّ من يعبد الضوء، يعلّم الأطفال الذين يداوون عيونهم: هناك نورٌ لا تراه العين، بل تذوقه الروح.
خاتمة: من العتمة إلى النور الكوني
حادثة البايجر لن تُمحى من ذاكرة الأرض، فهي لم تكن مجرد كارثة أو خسارة جسدية، بل ولادة جديدة لفهم الإنسان وللأمة وللمقاومة. العيون المغلقة التي تركتها الشظايا لم تُطفئ الحياة، بل أضاءت مسارات جديدة للرؤية، مسارات لا تلتقطها العدسات، ولا تُسجّلها الكاميرات، مسارات تنبت من قلب الألم إلى نور الحكمة.
إن رجالاً ونساءً وأطفالاً، كل واحد منهم صار بمثابة شعلة روحانية؛ يعلّمنا أن المعنى الحقيقي لا يُقاس بقدرة العين على الالتقاط، بل بقدرة القلب على الإمساك بالحق، وأن العتمة ليست نهاية، بل مقدمة لاكتشاف ما لم نرَه من قبل.
السيدة فاطمة الزهراء والسيدة زينب هنا ليستا رموزاً بعيدة، بل حاضرتان في كل عين أصابتها النار، في كل طفلٍ لم يعد يرى، وفي كل أمٍّ تحمل ابنها بين ذراعيها. فكما علّمتنا الزهراء أنّ القوة في الصبر، وزينب أنّ الحرية في مواجهة الظلم، يقدم لنا اليوم المقاومون درساً حياً: أن العين التي فقدت بصرها قد ترى الحقيقة بوضوحٍ أكبر من أي عين طبيعية.
وفي هذا المعنى، تصبح مأساة البايجر مرآة لنا جميعاً: للأمة التي تختزل الحياة في صور ومساحات ضيقة، وللبشر الذين يعتقدون أنّ الرؤية تقتصر على الحدقة. إنّ هذه العتمة تكشف أن النور الحقيقي ليس ما يراه الجسد، بل ما يلتقطه القلب والضمير والروح.
إنها دعوة لأن نعيد النظر في معنى المقاومة، وأن نرتقي بفهمنا للحياة، لأن كل ضحايا البايجر، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أصبحوا معلمين للروح البشرية، يعلموننا أن الألم يمكن أن يتحوّل إلى ضياء، وأن الخسارة المادية ليست نهاية، بل انطلاق إلى إدراك أعمق للوجود.
وفي النهاية، يبقى درس البايجر خالداً: أنّ العتمة التي تحيط بنا قد تكون الطريق الأقصر إلى النور، وأنّ الأعين التي أُغلقت، لم تُفقد القدرة على الرؤية، بل اكتسبت رؤية جديدة تتخطى حدود العالم المرئي، لترسم أفقاً للحرية والوجود والإيمان.