أيّهما أولاً: الدولة أم المقاومة وسلاحها؟
د. عصام نعمان
ينشغل اللبنانيون، مسؤولين ومواطنين وهيئات مذهبية وسياسية، بجدلية حارّة ومتصاعدة عنوانها أيهما أولاً: الدولة أم المقاومة وسلاحها؟
هذا السؤال طرحه معارضو حزب الله بما هو قائد المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي والنصير المساند للمقاومة الفلسطينيّة بعد معركة طوفان الأقصى المتواصلة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
معارضو المقاومة فئتان: الأولى تتحجّج بأنّ المقاومة لم تستأذن الدولة في تصدّيها لــِ “إسرائيل” بالسلاح ما تسبّب بوقوع مزيدٍ من القرى الحدودية تحت وطأة الاحتلال. الفئة الثانية تقرّ بحق الشعب والمقاومة بالردّ على العدو، لكنها تدعو الى تأجيله الى حين استكمال الدولة تعبئة قدراتها وتسليح جيشها ليصبح بإمكانها مواجهة “إسرائيل” المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية.
إنّ السؤال موضوع الجدلية المتصاعدة غير صحيح ولا يعبّر عن حقيقة المشكلة بل الأزمة التي يعانيها لبنان منذ “الاستقلال” سنة 1943. ذلك أنّ الدفاع عن النفس لا يتطلّب إذناً من أحد. حتى لو افترضنا أنّه يتطلب إذناً من الدولة، فإنّ الدولة في معانيها ومبانيها الحقيقية غير موجودة في لبنان. ولا يُردّ علينا بالدعوة الى تأجيل الردّ على العدو المعتدي الى حين استكمال الدولة استعداداتها وتسليح جيشها وذلك لسببين: الأول، لأنه كلام قديم مجوّف لم يقترن بأيّ محاولة جادّة لوضعه موضع التنفيذ. الثاني، وهو الأهمّ، لأن لا دولة في لبنان بالمعنى الصحيح ليُصار الى تأهيلها وتسليح جيشها واستئذانها تالياً لمباشرة المقاومة، أو لمعاقبة المقاومين غير المستأذنين بنزع أسلحتهم!
لماذا لا دولة حقيقية في لبنان؟
عوامل وأسباب عدّة أبرزها ثلاثة:
أولاً: ورثت فرنسا الاستعمارية عن السلطنة العثمانية المهزومة في الحرب العالمية الأولى بضع ولايات في بلاد الشام بالإضافة الى متصرفية جبل لبنان فقامت، بادئ الأمر، بتحويلها الى خمس دول على أسس مذهبية وقَبَلية، ثم قامت بتوحيد أربعٍ منها في دولة سورية واحدة، وضمّت الى متصرفية جبل لبنان أقضيةً أربعة كانت تابعة لولايتي دمشق وبيروت سمّتها “دولة لبنان الكبير”، وأرست نظامها السياسي على أسس طائفية وفئوية.
ثانياً: حكمت فرنسا لبنان من خلال جماعة أوليغارشية من متزعّمي الطوائف ظلّت بدورها حريصةً على اعتماد النظام السياسي الطوائفي وإبقائه بمنأى عن أيّ إصلاح بإتجاه مبادئ المواطنة والديمقراطيّة وحكم القانون والمساواة.
ثالثاً: اتّسمت سيطرة الجماعة الأوليغارشية الطوائفيّة على مقاليد السلطة باستساغة التدخلات الأجنبيّة في شؤون البلاد، وبالفساد الواسع النطاق، وبمحاربة التيارات الإصلاحيّة من ليبرالية ويسارية، وبالحؤول تالياً دون إصلاح النظام السياسيّ وفق وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) المعتمدة سنة 1989 ما أدى إلى نشوب حروب أهلية وإضطرابات أمنية.
بفعل هذه العوامل والأسباب أضحت “الدولة” في لبنان إطاراً مجازياً لموظفين ومستخدمين يتوزّع معظمَهم متزعّمو الطوائف المناهضون لكلّ إصلاح بنيوي حقيقي. والغريب أنّ معظم هؤلاء المتزعّمين المتسلطين يدّعون تأييد وثيقة الطائف التي كان جرى إدخال معظم إصلاحاتها في متن الدستور سنة 1990، لكنهم حالوا دائماً بذرائع شتى دون تنفيذها عملياً.
ما العمل للخروج من معمعة هذه الجدليّة المتصاعدة قبل أن تتطوّر إلى اضطرابات طائفية وأمنية تتزامن مع إعتداءات “إسرائيل” اليوميّة على مواقع في جميع أنحاء البلاد بدعوى منع حزب الله من ترميمها؟
لا شك في أنّ المنطق الوطنيّ السليم يقضي بأولوية الدولة على ما سواها. لكن، بما أنّ الدولة غير موجودة عملياً فإنه يتوجّب الشروع بلا إبطاء في بنائها. كيف؟ بوضع اتفاق الطائف الذي أضحت إصلاحاته جزءاً لا يتجزأ من الدستور موضع التنفيذ، ولا سيما المواد 22 و 24 و 95 منه التي تنطوي على النهج والآلية اللازمين لتنفيذ أحكامها.
في هذا السياق، يقتضي إيضاح الأمور الآتية:
أ ـ إنّ تنفيذ أحكام الدستور يتمّ بموجب قوانين يسنّها مجلس النواب، وبناءً عليها تصدر الحكومة المراسيم التنظيميّة اللازمة لتنفيذها.
ب ـ لا وجود لأكثرية جادة حالياً بين النواب لتقديم اقتراحات القوانين اللازمة لوضع أحكام الدستور الإصلاحية موضع التنفيذ ما يستوجب مبادرة الحكومة الى ذلك، فلماذا لا تفعل؟
ج ـ يتذرّع أرباب السلطة بأنّ ثمة تحديات وقضايا أخرى اكثر إلحاحاً تستوجب المعالجة، فهل هي حقاً أهمّ من تنفيذ أحكام الدستور؟ وهل يجوز عدم تنفيذ مواد الدستور التي استوعبت إصلاحات وثيقة الطائف سنة 1990، أي منذ أكثر من 35 سنة؟!
د ـ ليس كثيراً على رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام أن يتوافقوا على سؤال وحيد في استطلاعٍ يُطرح على الشعب اللبناني ليجيب عليه المواطنون المطلوب استفتاؤهم بنعم أو لا: هل ترى أنّ على مجلس الوزراء ومجلس النواب الآن إقرار القوانين اللازمة لتنفيذ إصلاحات وثيقة الطائف التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من الدستور؟
إنّي على يقين بأنّ المصوّتين بـِ “نعم” مدوّية سيتجاوز تعدادهم أكثر من نصف عدد المشاركين في استطلاع الرأي المطلوب. لذا أتوقع أن تُوجه الى الرئيس عون، قبل إجراء الاستطلاع، تحذيرات مهوِّلة بأخطاره وانعكاساته السلبية على “الوحدة الوطنية” و”التعايش” بين الطوائف وضرورة عدم تحدي أميركا ومن ورائها “إسرائيل” كي لا تقوم هذه الأخيرة بهجوم واسع على لبنان قد لا يقف عند حدود نهر الليطاني.
يستطيع الرئيس عون، المحيط بخفايا وأغراض هذه التحذيرات والتهويلات، أن يُواجه القائلين بها من السذّج التقليديين والوكلاء المعتمدين من القوى الخارجية المعادية بالحقائق والحجج والموجبات الآتية:
*صحيح أنّ اعداء لبنان والعرب أقوى منّا ومن حلفائنا، لكن أضرار “إسرائيل” العسكرية والاقتصادية والمعنوية نتيجةَ حربيها ضدّ قطاع غزة وإيران باتت تحدّ على الأرجح من تماديها في شنّ حروب إضافيّة مرهقة لها. كما أنّ الولايات المتحدة التي تعاني تضخماً inflation هائلاً، وديناً داخلياً متعاظماً بتريليونات الدولارات، وعلاقات سياسية متوترة مع خصومها كما مع حلفائها لا تبدو في صدد تحمّل المزيد من المصاعب ذاتها.
*إنّ أبواب التعاون مع دول الخليج العربية ليست مغلقة بل قابلة لمزيد من الانفتاح والتطور ما يساعد لبنان على معالجة تداعيات انهياره الاقتصادي.
*لا مجال بعد كلّ ما جرى لنا البقاء في حال القعود والجمود والامتناع عن التصدّي لحال غياب الدولة الفاعلة والاستمرار في تقبّل إملاءات القوى الخارجية المعادية والتي قد تؤدّي الى تلاشي كينونة الوطن والشعب.
*إذا كان دعاة المحافظة على النظام السياسي الطوائفي الهرم يطرحون دائماً ضرورة التوازن بين المكوّنات الطائفية فإنّ ثمة حقيقة بازغة لا يمكن تجاهلها البتة وهي أنّ “طائفة”، او بالأحرى جماعة عابري الطوائف، أيّ غير الطائفيين، قد أصبح تعدادهم ناهيك عن تأثيرهم السياسي والإقتصادي، يزيد بالتأكيد عن تعداد بعض الطوائف المعترف بها سياسياً وقانونياً ما يستوجب الاعتراف بهذه الحقيقة الموضوعية البازغة واستجابة ضروريّاتها وذلك بتسريع عملية بناء الدولة بدءاً بتنفيذ المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي إلى جانب مجلس شيوخ يختصّ بالقضايا المصيرية الأمر الذي يُسهم في بناء وحدة وطنية حقيقية على أسس المواطنة والمساواة أمام القانون والديمقراطية والعدالة والكرامة.
إنّ الرئيس جوزف عون، صاحب خطاب القسم الدستوري الشهير، مدعوٌ بلا إبطاء الى اتخاذ قرار وطني مصيري شجاع يقضي بالعمل على تنفيذ أحكام الدستور المعدَّل والمتضمّن إصلاحات اتفاق الطائف كي تكون لنا دولة فاعلة لها الأولويّة في كلّ الامور قبل سواها، ولا سيما في مواجهة العدو دفاعاً عن الوطن والشعب والسيادة.