بناء الدولة لا يستقيم مع الإعلام المتفلّت
خضر رسلان
في زمن الأزمات المتراكمة والتحديات المصيرية التي تواجه لبنان، لا يمكن الحديث عن بناء دولة عادلة وراسخة دون التوقف مليّاً أمام دور الإعلام، الذي يُفترض أن يكون شريكاً في الإصلاح، وحارساً للحقيقة، لا معوَل هدم يُستخدم لتصفية الحسابات أو تأجيج الفتن. إنّ الدولة لا تُبنى إلا على مؤسسات ذات ثقافة وطنية سليمة، والإعلام أحد أبرز مفاتيح هذه الثقافة.
لقد تحوّل الإعلام في لبنان، في كثير من المحطات، من سلطة رقابية حرة ومسؤولة إلى منبر للفوضى ووسيلة للابتزاز السياسي. فـبدعة نشر الاتهامات دون أدلة تحت عنوان «الاتهام السياسي»، وبثّ تقارير لا تستند إلى حقائق موثّقة، باتت ظاهرة خطيرة، لا تمسّ الأفراد فحسب، بل تُهدّد السلم الأهلي، وتُعمّق الشرخ في مجتمع مأزوم أصلاً. كم من التقارير المبنية على الكذب والتدليس أشعلت الشارع، وأثارت مشاعر الغضب، قبل أن يتبيّن لاحقاً أنها مجرد فبركات خبيثة!
ومن الأخطر أنّ بعض وسائل الإعلام باتت رهينة لأجندات خارجية، تموّلها وتوجّهها وفق مصالحها، فتتحوّل إلى أدوات تنفيذ سياسي وأمني لا علاقة لها بمصلحة الوطن. هذه القنوات، التي تنطق بلهجات غير لبنانية في الجوهر، لا تهدف إلا إلى زرع الشقاق، وتسويق أفكار لا تنبع من وجدان اللبنانيين، بل من جيوب المموّلين. في كلّ محطة مفصلية، نجد منابر بعينها ترفع الصوت حين يُطلب منها، وتهاجم وتحرّض حسب الإيعاز، ما يجعلها شريكة في ضرب الاستقرار، لا مجرّد ناقلة للخبر.
الإعلام الذي يفتقر إلى المهنية، ويتعامل بازدواجية مع الوقائع، هو إعلام مأجور لا يستحق الثقة. فالتعاطي مع الأحداث بمعايير مزدوجة، حيث تُضخّم أخطاء طرف ويُغضّ الطرف عن تجاوزات طرف آخر، ينسف أبسط مفاهيم العدالة والإنصاف، ويُفقد المواطن ثقته بوسائل الإعلام، وينسحب هذا الشعور بطبيعة الحال على الدولة ومؤسساتها.
نعم، لا حرية بلا مسؤولية، ولا مهنة بلا أصول. الإعلام المهني هو الذي يلتزم بالموضوعية، ويعكس الوقائع بشفافية، وينقل وجهات النظر المتعددة دون تحريض أو تحيّز. هو الذي يتحقق من المعلومة قبل نشرها، ويتجنّب الإثارة من أجل الربح السهل أو الشعبوية الرخيصة. هو الإعلام الذي لا يتحوّل إلى منصة لاغتيال السمعة أو لإشعال النزاعات…
لقد آن الأوان لإقرار قانون إعلام عصري وعادل، يوازن بين الحرية والمسؤولية، ويُحاسب من يروّج للأكاذيب أو يرتهن للخارج. فبناء الدولة يحتاج إلى إعلام حقيقي، لا إلى أبواق مأجورة، ولا إلى شاشات تتحوّل إلى ساحات حرب.
في النهاية، لا يمكن أن نطالب بمحاسبة الفاسدين، ولا ببناء مؤسّسات، إذا كان الإعلام ـ وهو مرآة المجتمع ـ مشروخاً ومشوّهاً. فإصلاح الإعلام هو المدخل الطبيعي لإصلاح الدولة.