القمع الرقمي في زمن "تحرير الشام"
أحمد علي إبراهيم
لم يعد القمع في "سوريا الشرع" محصوراً في الزنازين ومقرات الأمن، بل انتقل إلى ساحةٍ أكثر تعقيداً وتقلباً الى وسائل التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي تحاول فيه حكومة أبو محمد الجولاني ترويج نفسها "كإدارة مدنية"، تشير الوقائع إلى أنها تطبق رقابة صارمة على الانترنيت لا تقتصر على المعارضين السياسيين فحسب، بل تطال الصحفيين، الناشطين، وحتى المواطنين العاديين، الذين تجرأوا على إبداء امتعاضهم من الخدمات المتردية، أو انتهاكات الأمن العام أو الأوضاع المعيشية.
على فيسبوك، انستغرام، وحتى تيك توك، يخوض السوريون معارك كلامية لا تقل ضراوة عن تلك التي تشهدها ساحات الدم. تتشابك فيها الأيديولوجيات، وتتصادم الروايات، في فضاء بات أقرب إلى ساحة معركة رقمية، حيث يستخدم كل طرف ما لديه من أدوات لتشكيل الرأي العام أو حتى لإسكات خصومه.
مناصرو الجولاني و معارضوه
في الوقت الذي يستخدم الموالون للنظام الجديد المنصات الرقمية للدفاع عن سردية حكومة الشرع والترويج لخطاب "السيادة الوطنية" في مواجهة "المؤامرات الخارجية"، ويديرون مئات الصفحات التي تعمل كمنابر إعلامية موازية، تنشر أخبارًا، وأحيانًا إشاعات، لتعزيز موقف الشرع، يجد المعارضون له في وسائل التواصل وسيلة لكسر احتكار هذا النظام للرواية المدعومة بماكينات إعلامية إقليمية ودولية، حيث أنشؤوا منصات بديلة لنشر وتوثيق انتهاكات هيئة تحرير الشام، وتحشيد الدعم الدولي لقضيتهم.
لكن المعركة لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزت مجرد التعبير عن الرأي إلى ما هو أبعد، لتتحول هذه المساحة الرقمية إلى مقصلة ومحاكم تفتيش تجعلك هدفاً لحملة تشويه، أو سبباً لاختفائك في دهاليز الأمن العام التابع للهيئة، ما يطرح أسئلة ملحة حول ما إذا كانت هذه المنصات مجرد ساحة للنقاش الحر؟ أم أنها تحولت إلى مسرح لتصفية الحسابات، والإقصاء المتبادل؟
الإبلاغات الجماعية: من ليس معنا فهو ضدنا
تستخدم الهيئة تكتيك الإبلاغات الجماعية لإسكات الأصوات المعارضة، فمن خلال جيش من الحسابات المزيفة والموالين، يتم استهداف أي حساب يقوم بنشر محتوى ناقد للهيئة أو لسياستها الاقتصادية.
"في كل مرة أنشر تقريرًا عن انتهاكات الهيئة، أجد أن حسابي قد تعطل خلال ساعات بسبب بلاغات متزامنة. المشكلة أن إدارة فيسبوك لا تراجع هذه البلاغات بجدية، وغالبًا ما تقوم بإغلاق الحسابات تلقائيًا، مما يمنح المجموعات القمعية سيطرة شبه مطلقة على المحتوى" يقول الناشط الإعلامي "ع. ش" الذي ما يزال يعيش "فيلم نهاية العالم" في الداخل السوري على حد تعبيره.
لا يقتصر الأمر على الناشطين الإعلاميين، بل حتى المواطنون العاديون معرضون لهذه الحملات، "تلقيت أكثر من ٢٥ رسالة تهديد في أقل من ٢٤ ساعة، بعدها بساعاتٍ تم تعطيل حسابي بشكل كامل. عندما حاولت استعادته، اكتشفت أن فيسبوك تلقى مئات البلاغات تتهمني بنشر "خطاب كراهية" و "محتوى إرهابي"، رغم أنني لم أفعل سوى نقل الحقائق عن مجازر الساحل."
التشهير والشيطنة
إلى جانب الإبلاغات الجماعية، توظّف الهيئة منصات وسائل التواصل الاجتماعي الموالية لها كسلاح للتشهير لتشويه صورة أي شخصٍ يجرؤ على انتقادها، فتُطلق على الصحفيين والنشطاء تهماً مثل "العمالة للنظام السابق"، "التبعية لروسيا وإيران"، أو حتى "الكفر والردة".
يشتكي الصحفي السوري (ف، ج)، من القمع المنهج الذي تتبعه حكومة الجولاني بعد تعرضه لحملة تخوين شرسة إثر تغطيته تحقيقًا منع من النشرعن الانتهاكات في الساحل السوري:
"ما يفعله الجولاني الآن لا يختلف عما كان يدّعيه مؤيدوه عن انتهاج النظام السابق القمع كأسلوب ضد معارضيه. الفارق الوحيد هو الإيديولوجيا، كنّا -نحن الصحفيون- نتهم بالعمالة للغرب إذا انتقدنا نظام الأسد، في حين نُتهم اليوم أننا فلولٌ لنظام الأسد في حال انتقدنا للهيئة. تم اتهامي بالعمالة لروسيا ثم بالخيانة، ثم بالكفر. تلقيت مئات الرسائل التي تتوعدني بالقتل، واضطررت إلى إغلاق حساباتي لفترة".
"في بيئة كهذه لا يحتاج القمع إلى الاعتقال دائماً، بل يكفي إطلاق حملة تشويه مكثفة ليجد المعارض نفسه منبوذاً أو مهدداً بالملاحقة." تقول إحدى الناشطات الحقوقيات "ر.خ" التي اضطرت إلى مغادرة حماة "خوفاً على حياتها بعد انتقادها الاحتكار الاقتصادي الذي تمارسه حكومة الجولاني لتجد عشرات الصفحات "تنشر صورتي مع اتهامات بأني عميلة للمخابرات الإيرانية، بعدها وصلتني رسائل تهديد".
رقابةٌ ذاتية
"نحن نعيش في حالة خوفٍ دائم. لا أستطيع كتابة رأيي بصراحة، ولا حتى التعبير عن استيائي مما يحصل، أي تعليق قد يتحول إلى تهمة، وأي تهمة قد تضعك في دائرة الخطر" تقول ( ر. ع) وهي ناشطة حقوقية في إدلب تنتقي كلماتها بدقة، فلم يعد الأمر بالنسبة لها بحاجةٍ إلى أوامر مباشرة للسكوت: "لقد تعلمنا أن نراقب أنفسنا بأنفسنا. هناك مواضيع لم نعد نقترب منها، مثل الفساد داخل الهيئة أو قضايا المعتقلين. أصبحنا نكتب بأسماء مستعارة، أو نستخدم منصات مشفرة، لكن حتى هذا لم يعد كافياً."
أصبحت الرقابة الذاتية منتشرة بشكلٍ غير مسبوق، حيث يلغي الكثيرون متابعتهم لصفحات مناهضة لحكومة الجولاني، أو حتى صفحات تحاول تقصّي الحقائق.
تؤكد (ك.ع) بعد استدعاء جهات تابعة للجولاني أحدٍ أفراد أسرتها في جبلة للتحقيق لمجرد ضغطه زر الإعجاب على منشورٍ انستغرام ناقدٍ، أنها أصبحت تعجب "خوفاً" بمنشورات مؤيدة للهيئة، "فالأمن الإلكتروني يراقب كل شيءٍ، وإذا لاحظوا أنك تتفاعل مع محتوى معارض، فقد تتلقى استدعاءً أمنياً أو تجد نفسك عرضة لحملة تشهير، لذلك من الأفضل أن تكون حذراً أو تغلق حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي".
الخوف يكتب بحبر سري
مع سقوط نظام بشار الأسد، تحولت سوريا إلى دولة بوليسية رقمية تديرها هيئة تحرير الشام بقبضة من حديد، في مناخٍ لم يعد فيه الخلاف في الرأي مجرد اختلاف، ليجد السوريون أنفسهم محاصرين مرةً أخرى في ديكتاتوريةٍ مرتدية ثوب "الإسلام المتطرف" تحت راية الجولاني.
يلجأ البعض في هذه الدولة إلى التحايل على السجن الرقمي بإرسال محتواهم إلى أصدقاء خارج سوريا ليقوموا بنشره على حساباتهم الخاصة، كما تقوم به المدونة (ت.ل) التي تستعين بصديقتها في برلين بنشر مقالاتها، لأنها قد تتعرض للمساءلة أو الاعتقال بسبب الرقابة الشديدة على حد تعبيرها.
في حين ينشر البعض الآخر تحقيقات مصورة على انستغرام متعمدين عدم إظهار وجههم واستخدام اسمٍ مستعار لتجنب التعرض للملاحقة.
"الظهور العلني يعني أنك هدف سهل، حتى لو كنت فقط تنقل واقع الناس، اعرف صحفيين اضطروا للتسلل إلى لبنان بعد أن تم الكشف عن هويتهم بسبب منشورات بسيطة على إنستغرام.
سجن بلا حدود
تحولت سوريا في ظل حكم الجولاني إلى مختبر جديد للقمع الرقمي، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة معركة تستخدم فيها أساليب متطورة لإسكات المعارضين، ليصبح الفضاء الرقمي محفوفاً بالمخاطر، حيث الكلمة تكلّف صاحبها أكثر مما يتخيل، وحيث تحاول سلطة الأمر الواقع فرض سيطرتها على كل حرف يكتب، تماماً كما يفعل الطغاة في كل زمان ومكان.