حروب التعريفات التجارية: ماذا تعني ونتائجها؟
زياد حافظ
الفضاء الإعلامي يضجّ بأخبار حول تقلّبات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في معظم الملفّات التي يقاربها سواء كانت داخلية أو خارجية. ومن الواضح أنّ تلك التقلّبات تدلّ على شيئين متناقضين نظرياً، ولكنّها في رأينا متكاملة.
أولاً، النبرة العالية التي تتسم بها تصريحاته في ما يتعلّق بقراراته التي تبدو هوجاء وتعسّفية هي جزء من استراتيجية التفاوض في كلّ هذه الملفّات.
ثانياً، الرؤية الثانية هي عدم وجود رؤية متكاملة للرئيس الأميركي في مقاربة الملفّات وخاصة في ما يتعلّق بالتفاصيل.
البعض يذهب أبعد من ذلك ويقول إنه يجهل محتويات الملفّات رغم ادّعاءه أنّه «يعلم ماذا يفعل»، وفقاً لتصريح أدلى به مؤخّراً حول الضجيج الذي أوجدته قرارات فرض التعريفات الجمركيّة على جميع الدول.
لفهم خلفية القرارات وتصرّفات الرئيس الأميركي علينا أن نستدرك أنّ الرئيس الأميركي هو قبل كلّ شيء «رجل استعراضات» (showman) الذي يسعى أن تكون الأضواء مسلّطة عليها دائماً. البعض يعتبرها نرجسيّة مفرطة، ولكن بطبيعة عمله السابق قبل الانخراط في عالم السياسة كان فعليّاً ومهنيّاً رجل استعراضات والمواقف المثيرة جزء من الاستعراض الدائم. ولا يعتبر أنّ هناك شيئاً اسمه دعاية سلبيّة. المهمّ هو أن يتكلّم العالم دائماً عنه وإنْ كان يسعى لرضى الناس رغم تظاهره بعد الاكتراث لرأي الآخرين.
هذا على صعيد السلوك الشخصي. أما في ما يتعلّق بمقاربة الملفّات فهو رجل صفقات ويعتبر أنّ في استراتيجية الصفقات الناجحة عليه أن يعرض العصا والجزرة في آن واحد، وأنّ العصا يجب أن تكون غليظة جدّاً. سياسة الترهيب قد تطغى على سياسة الترغيب، لكن في آخر المطاف يعتقد الرئيس الأميركي أنه سينجح. المشكلة تكمن في أنّ مفهومه للصفقة الناجحة هو أنّ الربح يجب أن يكون له والخسارة للطرف الآخر. لا يؤمن بنظرية «رابح ـ رابح» بل بنظرية اللعبة الصفرية.
ففي ما يتعلّق بالضجيج حول التعريفات الجمركية التي تشمل جميع الدول التي فيها تجارة مع الولايات المتحدة فتفكيك تلك القرارات يستوجب قراءة حيثيات القرارات وما ذكرناه أعلاه حول أسلوب التعاطي. فبالنسبة للحيثيات المعلنة يريد الرئيس الأميركي مقاربة العجز التجاري المزمن بين الولايات المتحدة ودول العالم. ويعتبر أنّ العجز التجاري الأميركي يعود إلى «النهب» الذي تفرضه دول العالم على الولايات المتحدة عبر فرض تعريفات على السلع الأميركية المصدّرة لها، وبالتالي فإنّ تصحيح العجز التجاري يكمن في فرض تعريفات جمركيّة بنسبة تمثّل حجم العجز التجاري الأميركي إلى حجم الاستيراد الأميركي. فإذا كان حجم العجز التجاري يمثّل 20 بالمئة من حجم الاستيراد الأميركي من ذلك البلد فإنّ التعرفة الجمركية المفروضة هي 20 بالمئة. وينظر الرئيس الأميركي أنّ التجارة مع الولايات المتحدة امتياز وليست حقاً، وبالتالي فإنّ التعريفات الجمركية تصبح نوعاً من «الجزية» التي تدفعها الدول للحصول على ذلك الامتياز. طبعاً علينا أن نتوقع عزوف عدد من الدول عن التجارة مع الولايات المتحدة ما سيزيد من عزلة الولايات المتحدة على الساحة الدولية. قد لا يكترث الرئيس الأميركي لذلك الأمر إلاّ أنّ مكوّنات أساسية للدولة العميقة في الولايات المتحدة والتي تتمثل بمصالح اقتصادية ضخمة قد ترى أنّ العزلة تهدّد مصالحها الحيوية وخاصة في القطاعات المالية. على كلّ حال هذا موضوع سيخضع للمتابعة الدقيقة لنرى إلى ما ستؤول إليه الأمور.
السبب الثاني لفرض تلك التعريفات هي لحماية صناعة يريد إعادة إحيائها بعد أن أقدمت الولايات المتحدة على تفكيك البنية الصناعية التي كانت ركيزة القوّة الاقتصادية فالعسكرية فالسياسية للولايات المتحدة. ويعتقد أنّ إعادة بناء القاعدة الصناعية الأميركية هي عبر الحوافز والتعريفات. فبالنسبة للحوافز هناك حوافز ضريبية وبالنسبة لحماية الصناعات الناشئة أو التي يريد إحياءها فالتعريفات الجمركية هي الوسيلة. ويعتقد الرئيس الأميركي أنه يستطيع إقناع الشركات الأميركية التي وطّنت صناعاتها في دول الجنوب الإجمالي بسبب انخفاض كلفة اليد العاملة ورخاوة القيود المنظّمة أن تعود إلى الولايات المتحدة لتتجنّب التعريفات الجمركية على السلع التي تصنّعها وتورّدها للولايات المتحدة كصناعة الملبوسات والأحذية على سبيل المثال في دول كفيتنام وماليزيا والصين والبرازيل ودول أميركا اللاتينية. فنسبة كبيرة من الواردات الأميركية تأتي من تلك الشركات الأميركية، وبالتالي يعتبر أنّ العودة إلى الوطن ستوفّر الوقوع بالعجز التجاري.
في المقابل، هناك عدد من الاقتصاديين كـ مايكل هدسون وراديك اديساي على سبيل المثال يشكّكون في زعم الرئيس الأميركي في عودة الصناعة التحويلية كالملبوسات والأدوات الالكترونية إلى الولايات المتحدة. فهؤلاء يعتقدون أنّ الهدف الحقيقيّ هو فقط القطاعات الاستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية والتي تستخدم الذكاء الاصطناعي. نعتقد أنه من المبكر إطلاق الأحكام على النيّات الحقيقية طالما لم يعلن عنها.
لكن هذه الأسباب المعلنة تصطدم بوقائع يصعب على الرئيس الأميركي مقاربتها. فحتى لو سلّمنا جدلاً أنّ الشركات الأميركية وغير الأميركية الراغبة في الاستفادة من الحوافز الأميركية والحصول على حصة من السوق الأميركية استجابت لدعوة ترامب في الاستثمار في البنية الصناعية فإنه لا يقارب سلاسل التوريد التي تمّ توطينها خارج الولايات المتحدة وخاصة في ما يتعلّق بالصناعات العسكرية. وتوطين سلسلة التوريد في الولايات المتحدة شرط ضرورة على نجاح بعث الصناعة الأميركية. وهذا يتطلّب الكثير من الوقت وربما لفترة تتجاوز مدّة ولاية ترامب. فقد لا يرى نتائجها في هذه الولاية وهذا ما يريده بالضبط للتفاخر بنتائج قراراته. وما ينطبق على سلاسل التوريد ينطبق أيضاً على الصناعات بأكملها حيث إقامة المصنع تتطلّب بعض السنين التي قد تتجاوز أيضاً مدة ولاية ترامب.
رغبة الرئيس الأميركي لعودة الصناعة تصطدم بواقع آخر لا نرى كيف يمكن تجاوزه ونقصد هنا غياب ما يُسمّى بسياسة صناعيّة. فالصين اتّبعت سياسة صناعيّة وكذلك الأمر بالنسبة لكوريا الجنوبية، واليابان، وأندونيسيا، وماليزيا. ليس هناك ما يدلّ على وجود سياسة صناعيّة في الولايات المتحدة وحتى عن وجود أدبيّات في هذا الموضوع. لذلك يمكن التشكيك في جدوى الإجراءات التي يتخذها الرئيس الأميركي في غياب تلك السياسة ناهيك عن غياب تخطيط للأهداف القطاعية والمرحلية والتنسيق بينها.
وما يتلازم مع تلك السياسة لتنشيط الصادرات الأميركية هو التخفيض القسري أو الطوعي لسعر صرف الدولار تجاه العملات الأخرى. هذا يعني أن تقبل دول العالم أن تكون صادراتها أكثر كلفة واستيرادها من الولايات المتحدة أكثر رخصاً. ليس هناك مَن يستطيع أن يقول إنّ اقناع دول العالم على تخفيض سعر الدولار تجاه العملات أمر سهل. ولكن يعتقد الرئيس الأميركي أنّ تنشيط الصادرات الأميركيّة سيجعل الطلب على الدولار أكثر ويثبّت مركزية الدولار في التبادل التجاري العالمي. ويذهب إلى أبعد من ذلك في تهديد الدول التي لا تريد أن تتعامل مع الدولار. فقبل صعود مجموعة بريكس كان ذلك التهديد فعّالاً أما اليوم فحجم التبادل التجاري بالدولار أنخفض إلى أقلّ من 60 بالمئة مما كان عليه وربما إلى أقلّ من 50 بالمئة. فحجم التبادل الاقتصادي لا يقتصر على التجارة العينية، بل يشمل حركة رؤوس الأموال والاستثمارات. المعضلة التي تواجه الإدارة الأميركيّة هي ما هو الأفضل: تثبيت مكانة الدولار في العالم في التبادل المالي والتجاري أم تخفيض سعر الصرف لتشجيع الصادرات الأميركية وزيادة كلفة الاستيراد لتحسين الميزان التجاري؟
تبقى مقاربة أسلوب الرئيس الأميركي في التفاوض. ففي تصريح له يقول إن فرض التعريفات الجمركية على جميع الدول أدّى إلى إقبال 70 دولة على التفاوض (هو استعمل عبارة أخرى مسيئة لكرامة تلك الدول). قد «تبلع» الموسى كما يُقال في العامية، لكن هذا يعني أنّ الولايات المتحدة غير ذات ثقة في إبرام اتفاقات ما يعني أنها عاجلاً وليس آجلاً ستسعى إلى الخروج من التعاطي مع الولايات المتحدة. هذا سيزيد من عزلة الولايات المتحدة ومن تراجع حضورها ونفوذها بالعالم. هل هذا هو الطريق لإعادة أميركا عظيمة مرّة أخرى؟
لقد تلقّى الرئيس الأميركي ردّاً قاسياً على سياساته التجارية تجلّى بالانخفاض الحاد في البورصة الأميركية. التساؤل المشروع هو حول توقيت الانخفاض وحجمه. عدد من المستثمرين الكبار كـ وارن بوفيت المساهم الأكبر في شركة بركشاير هتاوي (Berkshire Hathaway) المالية التي تملك خامس محفظة أسهم وسندات في الولايات المتحدة كان قد أعلن عن خروجه من السوق المالي منذ حوالي ثلاثة أشهر لأن باعتقاده أنّ ارتفاع أسعار الأسهم والبورصة بشكل عام يحتاج إلى «تصحيح». وهو محقّ بذلك وبالتالي يمكن اعتبار الانخفاض الحادّ «تصحيحاً» للسوق. في المقابل هناك قراءة أخرى للمشهد وهو «معاقبة» الرئيس الأميركي من قبل الشركات المالية الكبرى التي لا ترى بعين الرضى التقلّبات في المزاج الذي يزعزع الاستقرار. هذه الشركات الماليّة الكبرى وعددها لا يتجاوز أصابع اليد هي من المكوّنات الرئيسيّة للدولة العميقة. وربما قد فهم الرسالة الرئيس الأميركي فقام بتجميد التعريفات الجمركيّة لمدة 90 يوماً «للتفاوض» مع الدول المعنيّة. فهل سيستمرّ في تلك السياسة التي هي نوع من البلطجة التجارية والمالية؟
في هذا السياق فإنّ المناخ غير المستقرّ في الأسواق الأميركيّة لا يساعد على تدفّق الرساميل الأجنبية إلى الولايات المتحدة. فالانخفاض الحادّ في البورصة الأميركية والتقلّب غير المبنيّ على معطيات واضحة، بل كردود فعل على المزاجيّة التي تتسم بها الإدارة الأميركية فذلك يساهم في خروج الرساميل الأجنبية من الأسواق المالية الأميركية بدلاً من الدخول إليها كما يتمنّى الرئيس الأميركي بالنسبة لأموال الدول الخليجية والجزيرة العربية.