قمة كمب ديفيد الأمريكية- الخليجية
منير شفيق
ثمة مؤشرات كثيرة تدّل على وجود خلافات عميقة وجديّة بين دول الخليج الفارسي عموماً والسعودية خصوصاً من جهة وبين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية.
لقد عبّر عن هذه الخلافات، بصورة مواربة، في اللقاء الذي تمّ بين الرئيس الأميركي باراك أوباما وكل من وليّي العهد السعوديين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان اللذين نابا عن الملك سلمان في حضور قمة "كمب ديفيد”، الأمريكية – الخليجية. ففي كلمته الرئيسية أكد أوباما على "العلاقة الثابتة والطويلة والاستثنائية مع السعودية ومنذ أيام الرئيس فرانكلين روزفلت والملك فيصل”. ويبدو أن أوباما هنا نسي أن تلك العلاقة قامت بين روزفلت والملك عبد العزيز وليس الملك فيصل. ثم تلا ذلك وعده بالاستمرار "في بناء هذه العلاقة أمام التحديات” (الراهنة).
هذا التأكيد على تاريخية العلاقة واستثنائيتها ما كان ليأتي على هذه الطريقة، وبهذه المناسبة، إلاّ للتخفيف من الخلافيات العميقة والجدية. وقد عُقِدَت هذه القمة لا لاستعادتها واستمرارها، وإنما عملياً لإنقاذها من التدهور أكثر، ومحاولة بناء علاقات "أفضل” من العلاقات التي سادت بين البلدين لا سيما خلال السنوات الأربع الماضية.
صحيح أن السعودية، ومنذ لقاء روزفلت- عبد العزيز عام 1945، كانت تترك لنفسها هامشاً يختلف، بهذا القدر أو ذاك، مع السياسات الأمريكية، ولكن من دون المساس بالعلاقات الاستراتيجية، كما عدم السماح بتدهورها إلى المستوى القائم الآن. ولهذا تعقد قمة كمب ديفيد لتبذل إدارة أوباما، وأوباما شخصياً، غاية الجهد لطمأنة السعودية على ثبات الحماية الأمريكية لأمن السعودية (النظام نفسه) وأمن دول الخليج الأخرى.
ما سعى الوفد السعودي إليه هو الحصول على ضمانات أمنية قوية جديدة مكتوبة ومعلنة فيما سخا أوباما بتقديم الوعود بعيداً من أي التزام قانوني موثق يحتم على أمريكا التدخل المباشر والفوري في حال تعرض أمن السعودية وأي من دول الخليج لخطر داهم.
ولما لم يكن تحقيق هذا الهدف السعودي – الخليجي ممكناً فقد دارت التفاهمات والوعود والتزويد بالسلاح من حوله. وهو ما قد يُعتبر فشلاً على مستوى الأولوية التي أُريدَ تحقيقها. ولكن من جهة أخرى أنجز بعض التقدم في رأب بعض الصدوع، وفي الطمأنة الكلامية، وفي التسلح، ومجالات أخرى مما يسمح للوفد ألاّ يعود خالي الوفاض، أو فاشلاً كلياً.
كثيراً ما كانت السعودية في المراحل السابقة للعلاقات بأمريكا توسّع من هامش حركتها السياسية، مثلاً في قمة الخرطوم بعد المصالحة بين عبد الناصر والملك فيصل وصدور اللاءات الشهيرة التي سمحت بتغطية حرب الاستنزاف وإطلاق المقاومة الفلسطينية في مرحلتها الثانية عام 1968، أو ما قام من محور مصري – سعودي – سوري ضدّ عراق نوري السعيد في أواسط الخمسينيات، أو استعادة المحور الثلاثي نفسه في حرب رمضان 1973، أو تجدّده ما بين خريف 1994 و2000. ولكن تلك العلاقات حافظت دوماً على التحالف الاستراتيجي مع أمريكا في الحرب الباردة لا سيما ضدّ الاتحاد السوفياتي. وهذا ما جعل الكثيرين يرفضون الإقرار بتحرك السعودية ضمن هامش لحسابها في ما بين المحاور العربية. ويصرون على تماهي سياساتها بالسياسات الأمريكية. وقد وصل الأمر ببعضهم إلى قراءة السياسات الأمريكية من خلال المواقف السعودية متجاهلين أية فوارق.
يمكن القول أن المرحلة التي تماهت فيها السياسة السعودية كلياً بالسياسات الأمريكية كانت ما بين 2001 و2010، وعلى التحديد في مرحلة الهجمة البوشية الشرق أوسطية ما بين 2001 – 2009. فقد عرفت هذه المرحلة خضوعاً واستسلاماً لا مثيل لهما إلاّ في فترات قليلة سابقة. وحتى هذه كانت أقرب للتقاطع مثلاً مقاومة السوفيات في أفغانستان.
على أن السمة الرئيسة المميزة للعلاقات الأمريكية – السعودية منذ 1945 إلى 2010 كانت الحماية الأمريكية الثابتة والمضمونة لأمن السعودية ودول الخليج الفارسي الست (أعضاء مجلس التعاون الخليجي)، أو بعبارة أدق ضمان النظام السعودي، كما حدث مثلاً عندما غزا العراق الكويت 1990، ومن هنا فإن تجليات السياسات السعودية في مختلف مراحلها وتلاوينها تمّت تحت مظلة هذه الحماية.
هذه الحماية رُفِعَت عملياً، أو في الأقل، من وجهة نظر السعودية، بعد أن وقفت أمريكا عاجزة أمام الإطاحة بحسني مبارك وزين العابدين بن علي. بل ذهبت أبعد إلى فتح الحوار مع الأخوان المسلمين والدخول في المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي وإقرارها بحقها في التخصيب السلمي في حدود الـ5%.
هذا التغيّر في الموقف الأمريكي جاء بسبب اختلال كبير في موازين القوى العالمي والإقليمي والعربي في غير مصلحة أمريكا خلال الخمس سنوات الماضية. وهو ما أخذ يفرض عليها بإحداث تغييرات في سياساتها وأولوياتها وقُدراتها في التأثير والفعل والسيطرة. فأمريكا روزفلت وترومان وأيزنهاور وكينيدي حتى جورج دبليو بوش غير أمريكا أوباما. كما أن ميزان القوى العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وحتى 2009 مروراً بمرحلة انتهاء الحرب الباردة غير ميزان القوى العالمي في المرحلة الراهنة بالنسبة إلى الدور الأمريكي فيهما. أي الانتقال من موقع القيادة إلى موقع فقدان القيادة. أو الانتقال بالقيادة "من أمام” إلى القيادة "من الخلف” (وفق الوصف الأبله لأوباما) كأن ثمة قيادة "من خلف” في الصراعات الدولية في ما بين العمالقة والمنافسين وفي ظروف التراجع في ميزان القوى.
عندما أحسّت القيادة السعودية بالأخطار الداهمة التي قد تصل إلى وجود النظام السعودي نفسه، كما حدث مع أنظمة رأتها تهوي أرضاً، أو تتمزق مكوّناتها، انتقلت إلى سياسات جديدة في محاولة لتعويض الحماية الأمريكية المفقودة أو المشكوك فيها. وهذا ما يفسّر ما تبنته من علاقات استراتيجية خلال الأربع سنوات الماضية مع كل من الصين وروسيا والهند واليابان وفرنسا، أما عربياً فمع مصر السيسي ومحاولة بناء أوسع تحالف عربي ضد الأخوان المسلمين، ثم ضد داعش من جهة، وضد كلٍ من إيران وحزب الله والحوثيين من جهة أخرى. ثم يفسّر مبادرتها إزاء تركيا وقطر بعد تسلم الملك سلمان السلطة وانتهاء الخطر الداهم الذي مثلته موجة صعود الأخوان المسلمين خلال العامين 2011 و2012 بعد الإطاحة بمرسي ومحاصرة حماس في قطاع غزة، وضرب حزب الإصلاح في اليمن.
ففي ظل الانتقال إلى الهجوم الوحشي بالطيران ضدّ تحالف الحوثي وصالح وما راح يلحق بالشعب اليمني من كوارث، ويتهدّد اليمن باندلاع حرب أهلية، انعقدت قمة "كمب ديفيد” لإعادة ترميم العلاقات الأمريكية- الخليجية عموماً، والأمريكية – السعودية خصوصاً.
وكان من الواضح منذ اليوم الأول، وحتى عبر غياب ثلاثة من القادة الخليجيين الست، ولا سيما العاهل السعودي، بأن الوفد السعودي والوفود الخليجية في موقع الهجوم السياسي على أمريكا لاستعادة العلاقات القديمة (علاقات الحماية والتدخل العسكري المباشر إذا ما تعرض أمن الخليج الفارسي لخطر)، فيما كان موقع أوباما مرتبكاً وموارباً. وقد راح يروّج لاستراتيجية أخرى لا تضع في أولويتها إيران، كما تفعل السعودية، لكن مع بقاء درجة عالية من الكيد والعداء لإيران شكلت نقطة تقاطع مع السعودية ودول الخليج الفارسي مما أنقذ لقاء كمب ديفيد من الفشل التام. وترك نقاط لقاء لا يستهان بها.
إنها معادلة جديدة غير معهودة من قبل. ومن ثم سياسات سعودية – خليجية مختلفة من حيث الدور وإدارة الصراع والهجوم والدفاع عما كانت عليه من قبل كذلك.
وهو ما راح يعكس نفسه على إعادة ترتيب الداخل السعودي منذ تولي الملك سلمان، وما راح يتخذه من قرارات وترتيبات داخلية إلى حد اعتبره كثيرون بمثابة الانقلاب الملكي بلا عسكر.