حربٌ مفروضة لتجنب مصير هالك
حسام مطر
يذهب معارضو حزب الله منذ إعلان دخوله الى جانب الدولة السورية في معركة القصير الى إدانة هذا القرار لعدة أسباب، أبرزها كونه خياراً انتحارياً من حيث الخسائر اللاحقة بالحزب وما يعتبرونه "استدراجاً” للجماعات التكفيرية الى الداخل اللبناني. مناسبة العودة الى هذا السجال هو حصول حدثين كبيرين خلال الأيام الأخيرة، تقدم حزب الله والجيش السوري في معركة القلمون واجتياح "داعش” لمدينة الرمادي العراقية.
في وجه الاجتياح "الداعشي” الهمجي، يدعو البعض حزب الله لعدم الخروج الى سوريا وملاقاة التهديد على تخوم مناطقه وأيضاً على حليفه الاستراتيجي. أما سبب هذه الدعوة فمبررها أن على حزب الله المراهنة على "الدولة اللبنانية”، وثم على المجتمع الدولي، وثم على احترام "داعش” للحدود الوطنية، وهي للمصادفة حجج تتطابق مع مبرر هؤلاء للدعوة إلى نزع سلاح المقاومة بوجه إسرائيل. لا تحتاج محاججة هذه الدعوة الى كثير من الاستدلال النظري، يكفي العودة الى تجربة المسيحيين والأزيديين في العراق. لم يتعرض هذان المكونان لـ”داعش”، لم يقاتلا في سوريا، ثم راهنا على الدولة العراقية المنهارة، وصدقية المجتمع الدولي ورحمة "داعش” وتقديره للحدود، فإذ بهم عرضة للإبادة والهتك والتهجير والمحو.
خلال الأسابيع الماضية فر أهالي الرمادي "السنة” من مدينتهم على وقع تقدم "داعش” الميداني فيها، حتى البغدادي خرج يناشدهم البقاء، للتمترس بهم لاحقاً. البغدادي الذي خرج براية الدفاع عن "أهل السنة والجماعة” يفقد قدرته يوماً بعد آخر على إقناع هؤلاء السنة برحمته وأحقيته، فهل العتب على أهل المذاهب والطوائف الأخرى؟ البارحة سقطت الرمادي بيد "داعش”، أهلها من السنة كان مصيرهم الإعدامات والتشريد والتنكيل ومخيمات اللجوء. من تحالف يوماً مع "داعش” أو تغاضى عنه لجهل أو علم، يدفع اليوم ثمن هذا الخيار البائس، كثيرون من هؤلاء كانوا حطباً سعودياً - تركياً لإضعاف الحكومة العراقية من باب علاقاتها مع إيران، فقط لا غير.
"داعش” هذه، بلسان عزمي بشارة، بوجودها في الأنبار تعيق الدَّعم الإيراني لحليفها السوري عن طريق البر. ولكن هي أيضاً "داعش” التي يريد الإعلام الممول خليجياً - كالمنبر الذي يطل منه بشارة - أن يقنعنا أنها صنيعة إيران وسوريا. "داعش” اليوم أصبح عبئاً على المستثمرين فيه، تضخم أكثر من المطلوب وتجاوز المرسوم له واستنفذ جملة من أهدافه، ولذا قرر الأميركيون إضعافه في المدى المنظور. إلا أن حلفاء واشنطن، السعودية وتركيا وقطر، يعتبرون أن "داعش” جزء من التوازن بوجه محور المقاومة، ولكن تحت وطأة الضغط الأميركي، يبدو أن الطرفين توصلا الى مساومة: تخلي سعودي - تركي عن "داعش” في مقابل غض نظر أميركي عن دعم هؤلاء لجبهة النصرة - المصنفة إرهابية أميركياً - في سوريا.
توالت خلال الأسابيع الأخيرة كتابات في صحف خليجية - الشرق الأوسط مثالاً - تروج لدعم النصرة من باب أنها "الجناح المعتدل في القاعدة”، ولا تحتاج إلا لقليل من النصح والإرشاد من أهل العلم. بل وصل الأمر بأحد كتاب الرأي اللبنانيين في صحيفة الشرق الأوسط، الى الإقرار علنا أن جرحى جبهة النصرة يُعالجون في الكيان الصهيوني إلا أنه برر ذلك باعتباره تقاطع مصالح ظرفي. إلا أن هناك غاية أخرى لهذا الإقرار وهي مخاطبة الغرب والترويج لاعتدالية النصرة والدليل على ذلك علاقتها بالصهاينة، وهذا في الواقع ميزان الاعتدال في نظر واشنطن.
في هذه الأثناء تتواصل عمليات حزب الله والجيش السوري في منطقة القلمون على مساحة تقارب الـ 700 كلم مربع، معركة يراد لها بشكل جوهري ضمانة أمن المدنيين على طرفي الحدود. من القصير الى القلمون، دفع حزب الله عن اللبنانيين سيناريو المصير المسيحي العراقي والأزيدي العراقي، الشاكر والجاحد منهم على السواء. لا وقت عند حزب الله والجيش السوري لممارسة هواية التفريق بين النصرة وداعش، فهذه حرفةٌ لبائعي الكلام في صنعة الإعلام الممول خليجياً.
بالتأكيد يبذل حزب الله من دمه ولحمه في هذه المعركة، إلا أنها حربٌ مفروضة لتجنب مصير هالك. يدرك أهل المقاومة أنهم يخوضون حرباً فداءً لحاضرهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، حاضر ومستقبل يسعون فيه للحرية، للاستقلال، للشراكة في صنع مصيرهم، وللترقي بين الأمم. يضحي هؤلاء في سبيل الأمن والعيش الكريم والرفعة والعمران والمعاش، وليس في سبيل عناوين جوفاء أو أيديولوجيات صماء كما يروج إعداؤهم. حين يعبر هذا المجتمع بعبارة "فدا السيد” فليس إلا لأن السيد هو رمز للمقاومة التي اختبروا جدها وصدقها وقدرتها في تحقيق هذه الأهداف، لأنهم أدركوا حقاً أن المقاومة وسيدها هم فداءٌ لهم ولمستقبل أجيالهم، وأنهم بالمختصر "خيار حياة”.