وداعاً يا فارس الشاشة والميدان
د حسن احمد حسن
د. حسن أحمد حسن
دموع الرجال غالية وعزيزة، ولطالما زجرت العين وحاصرت دموعها في مآقيها إلا في حالات قليلة عندما يشق الدمع مجراه بلا استئذان، وهذا يعني أن الفقد عظيم والموقف جلل، ولا ضير آنذاك في أن يذرف الرجال بعض الدمع على الرجال الذين لطالما هدهدوا جراحاتنا، وأوقدوا في أعماقنا بأرواحهم شموع العزيمة والصبر وتحمّل الشدائد، مقروناً ببشائر النصر المأمول، وفقيدنا الراحل المرحوم العميد الدكتور أمين حطيط واحدٌ من أصحاب الفضل الذي لا يُنسى، وقامة عسكرية فكرية إعلامية تركت بصمتها في كل مكان حلَّ فيه شخصه الكريم، فكان القنديل المشعشع، والأمين الحازم الحريص على إضافة اللبنة إثر الأخرى في مداميك بناء النصر وهندسة معالمه بعلمية ومهارة تبيحان لبعض الدمع أن يشق طريقه لحظة قراءة خبر رحيله المفجع رحمه الله.
عندما تبكي الروح وينتحب القلب بصمت تبهت معاني الكلمات، ويعيش المرء حالة وجدانية عصية على القولبة بحروف وكلمات تعانق هي الأخرى بعضها بعضاً بأسى ولوعة على فراق من اعتدنا أن نتوسّم الخير في وجوههم، ونستبشر ألق العزة والعنفوان بإطلالاتهم، ولو عبر الشاشة التي لطالما زهت وشعشعت رغم حندس الظلام الذي لفَّ الواقع الضاغط على الجميع، ولعمري إنك أيها الراحل العزيز الغالي الجنرال أمين حطيط المقاوم أحد أبرز فرسان الشاشة والكلمة، فكما كنت فارس الميدان الذي ما لانت له قناة كنت سيد الشاشة الذي ما وهنت له عزيمة قط في خوض أشرس المعارك وأشدّها ضراوة وخطورة عبر الكلمة الواعية الواثقة الهادفة الممنهجة الزاخرة بعبق المقاومة والمقاومين.
عشرات المرات جمعتني بالجنرال المرحوم الراحل شاشات فضائية متعددة، وَلَكَم تكررت الدهشة التي تعتري من يقود الحوار وهو يتابع تكامل الأجوبة واتساقها، وكأننا جلسنا معاً واتفقنا على أدقّ التفاصيل، مع أنّ أياً منا لم يكن يعرف من هو الضيف الآخر، لكن كلانا كان ينطلق من ثوابت أساسية رسّختها ثقافة المقاومة على امتداد عقود، وهنا يحضر إلى الذهن المهنية العالية التي كانت جزءاً من شخصية الراحل الأمين رحمه الله، ففي الكثير من البرامج الحوارية التي كانت تستضيف أكثر من ضيف كانت الشاشة أقرب ما تكون إلى حلبة صراع حقيقي عندما يكون بعض الضيوف ممن اصطف في الضفة الأخرى ضدّ محور المقاومة، ومنهم أساتذة جامعة أميركيون وأطلسيون وغيرهم، ولعمري لم يكن الجنرال المقاوم الراحل يوماً إلا الفارس المجلّي وصاحب قصب السبق الذي لا تخيب طعنته، ولا تُصَدُّ ضربته، فيبهت الذين كفروا، ويُسْقَطُ في أيديهم فيبدون وكأنّ الطير على رؤوسهم، ويظهرون على حقيقتهم ضعفاء مهزومين في حضرة جنرال خبير يجيد استخدام الكلمة، ويدحض الأكاذيب بالحجة والبرهان، ويلقي بأدلته الدامغة فتلقف ثعابين السحرة الذين لا يبقى أمامهم إلا أن يندبوا حظهم العاثر الذي جمعهم عبر برامج حوارية كانت النتائج فيها دوماً محسومة لصالح الجنرال المقاوم المرحوم العميد أمين حطيط.
عرفت الراحل المرحوم الدكتور أمين حطيط منذ ربع قرن تقريباً، والتقيته محاضراً قديراً في كلية الدفاع الوطني، كما التقيته في العديد من الندوات الفكرية العسكرية والاستراتيجية، ولطالما كان المرجع الذي يطمئن الجميع لصوابية رأيه ودقة تحليله عندما تكون أكثر من وجهة نظر حاضرة على طاولة التشريح والبحث، وأهمّ ما كان يتميّز به حرصه على احترام جميع الآراء، ومناقشتها بعلمية وموضوعية لا مكان فيها للأماني والرغبات، بل للعمل المنظم والتخطيط الممنهج الذي يحدد الموقف المتشكل بدقة، وما هو المطلوب تحقيقه، ويضع في كفتي اقتراح القرار التكلفة والمردودية بعد احتساب نقاط الضعف والقوة لدى الصديق والعدو، وتحديد الفرص والتهديدات، مع التركيز على ضرورة الانطلاق من أسوأ خيار قد يقدم عليه العدو، ومتابعة العمل لقطع الطريق عليه، وتحويل ما أمكن من تحديات قائمة إلى فرص، وإذا تعذر ذلك ضرورة العمل لمنع تحوّلها إلى تهديدات، ويضاف إلى ذلك كله قدرته على تبني أية وجهة نظر يتبيّن له أنها الأكثر صوابية ومردودية.
في الأيام الأولى من عام 2023 التقيت بالدكتور أمين حطيط في بغداد لعدة أيام، وشاركنا في العديد من الفعاليات الفكرية والنشاطات الثقافية وورشات العمل العلمية، وفي كل مرة كان يتحدث فيها الدكتور أمين حطيط كانت تكتظ القاعة بالمتابعين، ويأتي العديد من الزملاء في ورشات أخرى لمتابعة ما يقوله ويقدّمه بطريقة تشدّ المتابع وتمنحه ــــ مهما كانت ثقافته عالية ــــ قيمة نوعية مضافة، ولن أنسى ما حييت المسحة الإنسانية الراقية التي تسكن أعماقه، وكم كان وجوده الشخصي مخففاً لألم مصابي بفقد ابنتي الكبرى التي تلقيت نبأ وفاتها ــ رحمها الله ــ ونحن في بغداد فكان الأخ والزميل والطبيب والمعزي والسند والمشارك لي كل مشاعر اللوعة وفقدان فلذة الكبد.
لم يكن يخطر بذهني يوماً أن أكتب كلمات في رحيلك أيها السيف الإنساني العروبي اللبناني المقاوم المشهر الذي جفا غمده، وآل على نفسه أن يبقى جاهزاً للاشتباك في أية لحظة وعلى مدار السنوات العجاف التي ما تزال تعصف بالمنطقة، وكم نحن جميعاً أحوج ما نكون إليك في ذروة الاشتباك الدامي والمركب مع جلاوزة العصر الذين لطالما أدمتهم ضرباتك الميمونة المباركة، فلماذا استعجلت الرحيل يا فارس الهيجاء وغبار النقع ما يزال يرتفع أكثر فأكثر؟ أدرك أنك كنت المسعف والمناصر والداعم في كل آن، وأعلم علم اليقين أنك حتى قبل لحيظات قليلة من نقلك إلى المشفى كنت في حمأة الاشتباك، لكنها إرادة الله ولن نقول إلا ما يرضيه: لله ما أعطى ولله ما أخذ.. تغمدك الله بواسع رحمته، وتقبلك مع الشهداء والصالحين والصديقين المقاومين وحسن أولئك رفيقاً.
أحر التعازي القلبية لأبنائه وأهله وذويه وجميع عشاق المقاومة الذين سيكملون الدرب، ويتابعون حمل راية المقاومة التي كان يستظل بشموخها الراحل المغفور له سيادة العميد الدكتور أمين حطيط.
عظم الله أجوركم جميعاً.