معركة إدلب، وقائع ونتائج
سمير الفزّاع
عندما يصبح الموقع الجغرافي عبئاً وإستنزافاً وبعد إستنافذه لأغراضه الدفاعية يقول المنطق بمغادرته إلى موقع أكثر تحصيناً… هذا يوفر لك عدة أمور دفعة واحدة، منها:
1- يهاجمك العدو بعدد معين من القوات والمعدات والذخائر… وعندما توسع ميدان المعارك فإنك تضعف إمكانياته وتشتت قواته… فالقوة اللازمة لمهاجمة جسر الشغور مثلاً لن تكون كافية للسيطرة على المدينة ومحيطها والدفاع عنهما… لقد أعدت هذه القوة لتسيطر على المدينة لكن تمددها وتوسيع إنتشارها -دون إستجلاب المزيد من القوات- يعني بسطها على مساحة تفوق القدرة ما يخلق الخلل والثغرات… وهذا ما حصل في جسر الشغور ومحيطها في المرحلة الأولى من الغزو التركي.
2- مع كل تقدم للجماعات الإرهابية في العمق السوري بعيداً عن الحدود التركية تطول خطوط إمدادها،بحيث يصعب معها تعويض الخسائر وسد النقص سريعاً، وتوفير الدعم الفوري للمواقع الأكثر تضرراً… ويزيد فرصة سلاح الجو والمدفعية الثقيلة وسلاح الصواريخ لإستهداف هذه الطرق وضرب الإمدادات قبل أن تصل حتى إلى ميدان المعركة.
3- يختار المبادر للهجوم توقيت المعركة ومكانها وظروفها… وهذه ميزة لا يمكن إنكار أهميتها، لكنها تبدأ بفقدان قيمتها مع مرور الوقت حتى تصبح مجرد نقطة في الزمن تجاوزها الوقت ومجريات الميدان.
4- أعدائنا في معركة محافظة ادلب والغاب بادروا للهجوم فكانت لهم هذه الميزة… دافع جيشنا عن مواقعه بكل إقتدار، وكبدهم خسائر هائلة في الأفراد والمعدات والذخائر… لكنه كان ينسحب عندما يصبح وجوده في الموقع مكلفاً جداً، ويرتفع مستوى تهديد القوة الموجودة فيه… والأهم بعد أن يُستفز العدو المندفع بكل قوته للسيطرة الموقع بصمود وصبر ومرابطة حاميته… عندها يعيد إنتشاره في منطقة جديدة أكثر تحصيناً بعد أن أجبر العدو على إستخدام أقصى ما لديه من الإمكانيات المتوافرة في الميدان وفي الإحتياط، وهنا أحد أهم المصائد الإستراتيجية للعدو التركي في هذه المعركة… أي أن يزج العدو بكل ما لديه، وأن نعرف كل ما يستطيعه وما أعده.
5- بعد توافر العناصر 4،3،2 المذكورة آنفاً، تبين حجم العدوان التركي المباشر، وأنه جهز عدد كبير من المجموعات الإرهابية لهذه المعركة، وأستجلب مجموعات جديدة خصيصاً لهذه المعركة جاء بها من الشيشان وأوزباكستان… ووفر لها أسلحة نوعية حديثة وبكميات كبيرة، ومعدات الرؤية الليلية، ومنحها شبكة إتصالات متطورة، ووفر لها غطاء من التشويش الإلكتروني للتعمية على إتصالات الجيش العربي السوري… في معارك إدلب أطلق المئات من صواريخ "تاو” على الدبابات والمدرعات والعربات والتحصينات… وثمن هذا الصاروخ 30 ألف دولار!! أي أن العدو التركي ومن خلفه محميتي آل سعود وثاني زجوا في هذه المعركة بكامل قوتهم وثقلهم، وهذا يعني بأن هذه المعركة سيكون لها تداعيات كبرى على كامل مجريات الحرب على سورية. تشبه هذه المعركة إلى حدّ بعيد معركة عين عرب، لقد حاول أردوغان أن يجعل من عين عرب موصل سورية لكن بدون وجود للحاجز الكردي كما هو في شمال العراق، وعندما هُزم في عين عرب تدحرجت هزائمه وهزائم داعش في مجمل المنطقة الشرقية والشمالية.
6- تحتاج هذه الإستراتيجية إلى صبر الصخرة، وأعصاب من فولاذ، وصمود أهل الأساطير، والأهم معنويات وثقة لا يهزها شيء. عندما تظهر الصبر والصمود والمعنويات العالية والثقة التامة… يخسر العدو نصف معركته لنكسبه نحن قبل أن تُحسم مجريات هذه المعركة. وبعد خطوة إستيعاب الهجوم ثم التعرف على خطط العدو وقدراته يأتي وقت الهجوم المعاكس، وهذا ما بتنا نراه في مدينة جسر الشغور نفسها، وفي محيط مدينة إدلب، حيث بدأ الجيش العربي السوري بإستعادة السيطرة التدريجية هنا وهناك، وأنعكس منحنى حركة العدو من التقدم إلى التراجع… بعد أن تغلبنا على أثار الصدمة الأولى للهجوم، ونجاحنا إلى حدّ كبير في معالجة وتجاوز بعض المشاكل التقنية والتكتيكية… كتأمين الإتصالات الفعالة، وإبتكار طرق التعامل الآمن مع صواريخ التاو، وتحسن الظروف الجوية المهمة لحركة سلاح الجو….
ما العمل ؟
إلى جانب الثقة بالنصر، والإيمان بإقتدار الجيش العربي السوري، نحتاج الى القيام بعدة إجراءات هذا بعضها:
1- الحصانة الفردية والجماعية بوجه الحرب النفسية الشرسة التي تُخاض على سورية شعباً وجيشاً وقيادةً… وهذا يتطلب الثقة والإيمان من جهة المواطن، والمزيد من التفاعل الميداني والشفافية من قبل السلطات وتحديداً إعلامنا الوطني.
2- تحدث البعض عن إعلان التعبئة العامة، صحيح أن هذه حالة دستورية قانونية نحتاج إلى دراسة تفعيلها، لكن هذا لا يمنع أن يبادر كل مواطن سوري إلى الدفاع عن وطنه ميدانيّاً، وبرفع السلاح بوجه هذه الهجمة الإرهابية التركية-السعودية-القطرية-الصهيونية، والإلتحاق بأحد التشكيلات الوطنية المدافعة عن طهر هذا الوطن وكرامة وشرف أهله من جيش أو لجان شعبية أو دفاع وطني… وهجر حياة اللامبالاة والسلبية والأنانية الفجة دون إنتظار أو التذرع بإعلان النفير العام.
3- كثيراً ما نكرر بأننا نواجه حرب كونية ضد سورية، سورية الوطن والهوية والتاريخ والحضارة والجيش والشعب والقائد والدور… لكن هناك كُثر لم يدركوا حتى اللحظة معنى أن تواجه حرب كونية، ودليلي على ذلك زئبقية المزاج الشعبي وسرعة تأثره بمجريات الميدان الجزئية والحرب النفسية… وكأن الحرب لون واحد، وكل مجرياتها تسير بإتجاه واحد، وإحتمالات معاركها واحدة دائما، وكأن كل ما يقوله العدو صحيح… وهذا مناف للعقل والمنطق ولطبيعة الحرب التي نقارع، فالوعي بطبيعة المعركة يحدد إلى مدى بعيد ردود أفعالنا، وطريقة تصرفنا حيال أي إخفاق أو نصر.
4- ألى أبناء سورية في المغتربات، عليكم دور هام على أكثر من صعيد، إختاروا يوماً من كل أسبوع أو شهر حتى، لتنظموا في كل عاصمة تقطنوا دولتها مظاهرة كبرى تُظهر طبيعة الصراع، وحقيقة موقف البلد الذي تقطنوه، وحجم المؤامرة الذي يعاني منها وطنكم… لتخلقوا رأي عام دولي ضاغط، وعليكم جمع ما تستطيعوا من تبرعات عينية ومادية لدعم وطنكم وجيشكم وأهلكم… فلا تجعلوا من غربتكم هروب، ومن سفركم جحود، ومن بعدكم هجران.
5- يقع على طبقة رجال الأعمال عبء خاص في دعم المجهود الحربي للجيش العربي السوري والقوى الرديفة له، كأن يرصدوا مكافآت مالية لعناصره، وأن يخصصوا نسبة من الوظائف في مؤسساتهم لمجندي الإحتياط واللجان الشعبية والدفاع الوطني، ودعم أسر الجرحى والشهداء… وهذا الجهد يجب أن يُرصد لمعرفة كيفية التعامل مع كل من تقاعس أو كان لوطنه ومع وطنه لحظة حاجته إليه.
كلمة أخيرة:
لا مجال للمقارنة بين تجربة الحشد الشعبي في العراق أو في اليمن وما يجري في سورية، في العراق تشكل الحشد الشعبي بعد فتوى دينية تاريخية أسقطت مشروع داعش ومشروع إنه إسقاط الدولة وتقسيم العراق… وبعد أن كادت الدولة أن تسقط، وعلى رجال الدين في سورية أن يبادروا هم إلى الحضّ على مقاومة الجماعات التكفيرية ومن خلفهم. وفي اليمن ظهر الحشد الشعبي بعد فرار الرئيس وإنفراط عقد الحكومة وهذا لم ولن يحصل في سورية. في الهجمة الأخيرة واجهنا أخطر ما فيها، مرحلة الصدمة والإغراق الناري والحرب النفسية الشاملة… التي كادت أن تُسقط الكثيرين!، وبدأنا بأخذ زمام المبادرة، لن تطول الأيام حتى نرى الكثير من المتغيرات، متغيرات ربما ستغير وجه الصراع ووجهته… هي أيام معدودة، ولكنها حُبلى بالمفاجئات… وتذكروا أنه في مثل هذه الأيام بدأت عملية تطهير القصير ليسقط حلم شطر سورية، ولتغلق بوابة الإرهاب عبر الأراضي اللبنانية على نحو شبه تام.