لمحة عن حياة شمس الشموس وأنيس النفوس الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام
أشرقت الأرض بمولد الإمام الرضا عليه السلام ، فقد وُلد خَيرُ أهل الأرض ، وأكثرهم عائدة على الإسلام .
وَسَرَتْ موجاتٌ من السرور والفرح عند آل النبي صلى الله عليه وآله ، وقد استقبل الإمام الكاظم عليه السلام النبأ بهذا المولود المبارك بمزيد من الابتهاج ، وسارع إلى زوجته يهنيها بوليدها قائلاً : ( هَنِيئاً لكِ يا نَجمَة ، كَرامَةٌ لَكِ مِن رَبِّكِ ) .
وأخذ عليه السلام وليده المبارك ، وقد لُفَّ في خرقة بيضاء ، وأجرى عليه المراسم الشرعية ، فأذَّن في أُذنِه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ودعا بماء الفُرَات فَحنَّكه به ، ثم رَدَّهُ إلى أمه ، وقال عليه السلام لها: ( خُذِيه ، فَإِنَّهُ بَقِيَّةَ اللهِ فِي أرضِهِ ) .
لقد استقبل سليل النبوة أول صورة في دنيا الوجود ، صورة أبيه إمام المتقين ، وزعيم الموحدين عليه السلام ، وأول صوت قرع سمعه هو : اللهُ أَكبَرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ الله .
وسمَّى الإمام الكاظم عليه السلام وليده المبارك باسم جده الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام تَبَرُّكاً وَتَيَمُّناً بهذا الاسم المبارك ، والذي يرمز لأَعظَم شَخصيةٍ خُلِقَت فِي دنيا الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله ، والتي تَحلَّت بِجميع الفضائل .
سبب تلقيبه سلام الله عليه بالرضا:
روى الصدوق (قدس سره) عن البزنطي انه قال :قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن موسى سلام الله عليهم : إن قوما من مخالفيكم يزعمون أن أباك سلام الله عليه إنما سمّاه المأمون (الرضا) لما رضيه لولاية عهده ، فقال سلام الله عليه : «كذبوا و الله و فجروا ، بل الله تبارك و تعالى سمّاه (الرضا) لأنه كان رضيّا لله تعالى في سمائه و رضيّا لرسوله و الأئمة من بعده صلوات الله عليهم في أرضه».
قال: فقلت له: ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين سلام الله عليهم رضيّاً لله تعالى ولرسوله والأئمة سلام الله عليهم أجمعين؟ فقال: «بلى»، فقلت: فَلِمَ سمّي أبوك سلام الله عليه من بينهم الرضا؟ قال: «لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ولم يكن ذلك لأحد من آبائه سلام الله عليهم فلذلك سمّي من بينهم الرضا سلام الله عليه».
الإمام الرضا وترسيخ العقائد :
لقد أهتم الإمام الرضا (عليه السلام) اهتماماً بالغاً ببيان العقائد الإسلامية ، والدفاع عنها ، و لهذا كان ( صلوات الله وسلامه عليه ) متصدياً للإجابة على جميع المسائل العقائدية بأجوبة معمقة وافية ، تندفع بها جميع الشبهات والإشكالات التي تثار من أجل زعزعة العقيدة و عدم ترسخها في نفوس المؤمنين ، وقد ذكر بعض المحققين : أن إرساء دعائم الفقه الإمامي كان في زمن الصادقين عليهما السلام ، وأما إرساء دعائم العقائد الإمامية فقد كان في زمان الإمام الرضا عليه السلام . و يمكن للباحث أن يقف على اهتمام الإمام الرضا عليه السلام الكبير بالعقائد من خلال ملاحظة أجوبته الكثيرة ومناظراته المتعددة ، و لعل مناظرته الشهيرة في مجلس المأمون مع زعماء الديانات والمذاهب أدل دليل على تصدي الإمام عليه السلام واهتمـامه الخاصين ببيان العقائد وإرساء دعائمها . فقد نقلت كتب الروايات والتاريخ أنه : لما قدم علي بن موسى الرضاعليه السلام على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق (رئيس الأساقفة) ورأس الجالوت (عالم من اليهود) ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر (الهرابذة خدم نار المجوس وقيل عظماءالهنود) وأصحاب زردهشت ونسطاس الرومي (بالرومية عالم بالطب)والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل.راجع كتاب عيون أخبار الرضا:ج2ص139. وكان هدف المأمون من جمع هؤلاء اختبار الإمام ومحاولة إظهار عجزه العلمي وإحراجه ، فقد روي أن الإمام عليه السلام لما دعي إلى مجلس المناظرة التفت إلى النوفلي فقال:
يا نوفلي أنت عراقي ورقَّة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟! فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك ؟! . ثم قال عليه السلام بعد ذلك : يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قال النوفلي : نعم. فقال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ! فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي.. علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له ! فعندها تكون الندامة ، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
وهنا سوف ننقل بعض مشاهد هذه المناظرة ، فقد جاء فيها أن الإمام عليه السلام التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوباً بنبأ محمد وأمته: إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم ، لتطمئن قلوبهم ، فإن بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ! أهكذا هو في التوراة مكتوب ؟
قال رأس الجالوت: نعم إنا لنجده كذلك. ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً .
قال لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر ! فقالا: قد قال ذلك شعيا.
وجاء فيها أن عمران الصابي قال للإمام عليه السلام : أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق. فقال له عليه السلام : سألت فافهم ، أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود وأعراض، ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه ولا في شيء حده ولا على شيء حذاه ومثله له ، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة ، واختلافاً وائتلافاً ، وألواناً وذوقاً وطعماً ، لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به ، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً تعقل هذا يا عمران ؟ قال: نعم والله يا سيدي.
ولم تنته هذه المناظرة إلا بعد انقطاع أسئلة أرباب الديانات والمذاهب وبطلان جميع حججهم ، وتوجد ختامها بإعلان عمران الصابي إسلام وإقراره بعقائد الإسلام الحقة .
يقول الحسن بن محمد النوفلي : فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد منهم قط ، لم يدن من الرضا عليه السلام أحد منهم ، ولم يسألوه عن شيء ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا ، وانصرف الناس.
اعلم أن التوسل بالإمام الرضا سلام الله عليه نافع للأمان من أخطار السفر في البر والبحر وللخلاص من الغمّ والهمّ والغربة.
في فضل زيارته سلام الله عليه
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ستدفن بضعة منّي بأرض خراسان لا يزورها مؤمن إلا أوجب الله له الجنة وحرّم جسده على النار».
قال الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسمّ ظلماً، اسمه اسمي، واسم أبيه اسم موسى بن عمران، ألا فمن زاره في غربته غفر الله له ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر، ولو كانت مثل عدد النجوم وقطر الأمطار وورق الشجر».
قال الإمام الرضا سلام الله عليه: «من زارني وهو يعرف ما أوجب الله تعالى من حقّي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاؤه نجى ولو كان عليه مثل وِزْر الثقلين الجن والأنس».