أزمة الحكم داخل البيت السعودي
علي عوباني
تغييرات في بنية الحكم السعودي هي الأكبر من نوعها خلال فترة وجيزة، لا تتعدى الأشهر من تاريخ استلام الملك سلمان بن عبد العزيز دفة الحكم. تعديلات حكومية، وإعفاءات، أقرب الى الإقصاءات. أوامر ملكية مفاجئة، وفق مسارين، مسار حكومي هامشي، ومسار سلطوي جوهري، يهدف الى تعديل مآل انتقال السلطة المستقبلي، أوامر ليس لها سوى معنى واحد، خوف الملك سلمان حديث العهد على اهتزاز العرش وعدم تمكنه من تركيز دعائم حكمه بعد، ما يدفعه لاستبعاد أجنحة وازنة في العائلة المالكة (أبناء اخوته غیر الأشقاء) لصالح ابنه وأبناء أشقائه من السديريين.
في التوقيت، أتى هذا التعديل بعد أربعة اشهر فقط على تولي الملك سلمان الحكم، ما يعني فشلاً ذريعاً في الخيارات التي نحا باتجاهها ببداية عهده، وإلا لما اضطر - لو كانت خياراته صائبة وصحيحة - لإجراء كل هذه التعديلات دفعة واحدة، ولكان لجأ الى المعالجة الموضعية، لكن من الواضح أن المسألة أعمق وأخطر من أي تغيير أو تعديل حكومي، وهي تتصل باستلام مقاليد ومفاتيح الحكم بأكمله والاستئثار به، ولعل ذلك ما اضطره لإصدار كل هذه الأوامر الملكية رزمة واحدة، محدثاً انقلاباً داخل الاسرة الحاكمة. ويعزز ذلك الأمر الملكي الجديد بدمج الديوان الملكي مع ديون ولي العهد، ما يعني بشكل أو بآخر تقويض صلاحيات الاخير وقطع الطريق أمامه للوصول الى سدة العرش.
الاسرة الحاكمة في السعودية
وفي التوقيت ايضاً، أتت هذه التطورات المفاجئة، واللافتة بعد أسبوع فقط من هزيمة آل سعود في اليمن، ما طرح تساؤلات حول الخلفيات الكامنة وراء هكذا تعديل وسبب هذه العجالة، في ظل حرب يقودها نظام الحكم السعودي، آل سعود، وهل تحمل هذه الخطوة دلالات حول تعزيز الجبهة الداخلية السعودية، بمواجهة اعتراضات على النهج "السليماني" الاقصائي الحاكم، ولعدوانه على اليمن. أسئلة تنتظر أجوبة عليها عاجلاً أم آجلاً من داخل أسوار البيت السعودي، وإن كان المغرد المشهور "مجتهد" تحدث قبل أيام من الأوامر الملكية عن ضغوط يتعرض لها الأمير مقرن للتنحي تحت طائلة تنحيته. كما تحدث عمّا يشبه انقلابا يسعى إليه الأمير متعب بن عبد الله لاستعادة كرسي العرش.
في الشكل، سبق الاعلان عن التعديلات الجديدة في بيت الحكم السعودي، مسرحية أمنية هوليودية هزلية، تمثلت بالإعلان عن توقيف 93 "داعشيا"ً، وإحباط مخططات ومؤامرات، وعمليات تفجير وهجوم على السفارة الاميركية، وفي ذلك محاولة، فاضحة لتغليب الجناح الأمني الموالي للملك - أي وزير الداخلية - محمد بن نايف ولي العهد الجديد، ووزير الدفاع محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وإظهار نجاحهما في توفير الاستقرار والامن في المملكة، تمهيداً لخطوة بيان تعيينهما كأولياء للعهد.
سلمان يستكمل انقلابه للاستئثار بحكم آل سعود
أبعد من ذلك، وفي الشكل ايضاً، فان الأمر الملكي بتعيين نجل الملك سلمان ولياً لولي العهد، يعبّر في طياته عن ضعف، كونه تضمن رزمة من التبريرات لهذا التعيين، كالت المديح والثناء على محمد بن سلمان وتحدثت عن صفات ومؤهلات وقدرات "اتضحت للجميع من خلال كافة الأعمال والمهام التي أنيطت به"، وصورته على انه: "قادر على النهوض بالمسؤوليات الجسيمة"، بينما لم يمض على تعيينه سوى 4 اشهر، وهي مدة زمنية غير كافية للحكم على "خيره من شره"، فيما لوحظ ان هذه التبريرات لم نجدها في تعيين محمد بن نايف ولياً للعهد، ولم يتم ذكر ميزة واحدة له، مع أنه أكثر خبرة ومع أن الصحف العالمية تطلق عليه لقب "جنرال الحرب على الارهاب".
أما في المضمون، فأسئلة كثيرة تطرح، عن سر هذه التعديلات، وهل هي تعبر عن أزمة حكم حقيقية داخل البيت السعودي، فما الذي يدفع الملك سلمان مثلاً لابعاد الرجل القوي عن وزارة الخارجية بعدما قضى سعود الفيصل فيها أكثر من نصف عمره وعايش الملوك والأمراء، ولم يمسه أي تعديل او أمر ملكي سابق، حيث كان الثابت الوحيد أمام كل التحولات والتعديلات الحكومية، سيما وان ذريعة وضعه الصحي غير مقنعة في نظام ملكي عادة ما يتشبث فيه المسؤولون بكراسيهم حتى الرمق الأخير من حياتهم. ثم هل أن تسريع وتيرة الخطوات المتعلقة بانتقال السلطة والتي ذكرها بيان تعيين ولي ولي العهد صراحة بعبارة "انتقال السلطة وسلاسة تداولها"، تعني بشكل أو بآخر، ان صحة الملك السعودي، ليست على ما يرام، لذا فهو يسعى جاهداً لتعبيد طريق السلطة أمام نجله محمد بأسرع وقت ممكن، عبر اسناد العديد من المهام إليه و"تعويمه" وإظهار "نجاحاته"، وهو ما برز بشكل جوهري لافت في الامر الملكي الذي قضى بتعيينه ولياً لولي العهد وصوره بأنه الرجل الخارق.
هذا ولم تخلُ "مقصلة التعيينات والاقصاءات" الجديدة، من علامات استفهام كبرى حول استئثار رجالات أميركا البارزين في مملكة القهر بحصة الاسد، عبر تبوء الوزارات السيادية، في الداخلية والدفاع، والخارجية، التي أسندت الى عادل الجبير، رجل الغرب في السعودية، وفي ذلك دلالة واضحة على هيمنة واشنطن على قلب الحكم السعودي والتحكم بمفاصله الأساس.
أما بالنسبة لطريقة إخراج هذه التعيينات المفاجئة، فلوحظ أن كلمة سر واحدة حاولت تصوير ما جرى على قاعدة أن الحكم في المملكة أصبح هرماً ودب الشيب فيه، وأنه كان لا بد من "هذه النقلة النوعية" و"تجديد شباب الحكم"، و"تحقيق الاصلاح"، المطلوب اميركياً ولو شكلياً، عبر تسليم الحكم للقيادات الشابة المتمثلة بالجيل الثالث من العائلة الحاكمة. لكن الحقيقة مناقضة لذلك تماماً، وعنوان "تجديد الشباب" الذي يعكس بحد ذاته صراعاً خفياً، ليس سوى شماعة للتغطية على الخلافات داخل البيت السعودي، استخدمت لإقصاء أجنحة وازنة عن الحكم لصالح اجنحة أخرى أكثر التصاقاً وولاءً للملك. فيما تبقى محاولات رأب الصدع داخل العائلة المالكة والمتمثلة بزيارات الملك واولياء عهده للمتضررين الاساسيين من الاجراءات الاخيرة - الامير مقرن بن عبد العزيز والامير سعود الفيصل - تبقى محاولات شكلية وصورية، باعتبار أن ما خلفته الأوامر الملكية الاخيرة من شعور فئات كثيرة داخل "آل سعود" بالاقصاء لا يمكن القفز فوقها ببساطة وسطحية مطلقة، كونها ستعمق اكثر فأكثر مأزق الحكم داخل البيت السعودي.