عن المذهبية لاغية الدين في الحرب على اليمن
طلال سلمان
في بيروت، وانطلاقاً منها، يمكن فك بعض رموز الشيفرة تمهيداً لقراءة مختلفة لهذه الحرب المباغتة التي أطلقتها المملكة العربية السعودية على اليمن بعنوان "الحوثيين”، بتهمة الخروج على الشرعية والإعداد لانقلاب يوصلهم إلى السلطة بدعم مباشر من إيران.
ففي بيروت لا حاجة للتمويه والمداراة، لأن المستنقع الطوائفي مفتوح فيها لرياح الحرب الأهلية العربية (والدولية ضمناً) منذ أربعين عاماً على الأقل، وفيها وعبرها تتوفر ترجمة مختلفة للحرب في سوريا وعليها، وللحرب في العراق وعليه، ولسائر الأحداث والتوترات السياسية في سائر أنحاء المشرق العربي، وبينها البحرين وصولاً إلى اليمن.
في بيروت وعبرها، يمكن طمس السياسة أو نزعها عن هوية التفجرات والصدامات الأهلية التي جرت العادة على تسميتها بـ "الأحداث المؤسفة”، والإعلان عن حروب طائفية، كانت في بداياتها ونتيجة لثقل العامل الفلسطيني فيها ـ "حرباً” بين المسلمين والمسيحيين، لتنتهي إلى معارك متقطعة بين المسلمين أنفسهم، سنة وشيعة، وإن ظل غلافها السياسي صامداً نتيجة لعوامل عديدة، بينها الحروب الإسرائيلية المتكررة وثقل "العدو القومي” للعرب في قلب خريطة الصراع بين أطرافها الذين كانوا موحدين فانقسموا متباعدين إلى حدود الفتنة، خصوصاً مع استدعاء إيران أو قدومها من دون دعوة تحت راية الجهاد المقدس من أجل فلسطين، ولعبها دوراً مؤثراً كان في الأصل ـ وعلى مدى التاريخ الحديث ـ من حق مصر، ثم خلفتها فيه سوريا ـ بالاضطرار كما بالرغبة ـ بعد معاهدة الصلح التي أخرجت مصر من قلب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتسببت ـ بنسبة أو بأخرى ـ في خلخلة الاطمئنان إلى رسوخ الهوية العربية، مانعة الانزلاق إلى مستنقع الطوائف والمذاهب والحرب الأهلية.
على هذا، لم تتأخر بيروت عن كشف الهوية الفعلية أو المضمرة لهذه الحرب التي باشرت المملكة العربية السعودية ـ ومعها بالضرورة "مجلس التعاون الخليجي” ـ في ما عدا سلطنة عمان ـ شنها على اليمن باسم "عاصفة الحزم”، مستعيدة مقطعاً من أهزوجة نظمها مؤسس المملكة عبد العزيز آل سعود في حروبه ضد خصومه (من المسلمين السنة) الذين كانوا ينازعونه حقه في حكم المملكة المذهبة. فالسلطة أقوى من الدين غالباً.
اليوم، تجاوزت الرياض، ومعها بعض عواصم الخليج الفارسي وبعض الأطراف السياسيين في عدد من الدول العربية، بيروت في تحديد الهوية الفعلية لهذه الحرب ضد "الحوثيين” بإعلانها حرباً ضد إيران، بما يشمل ضمناً توجيه تهمة جارحة ضد الشيعة العرب عموماً، بأنهم يقدِّمون مذهبهم على عروبتهم، ويقدمون إيران على أوطانهم. فالصورة الآن ـ إعلامياً على الأقل ـ انها "حرب سنية” تقودها السعودية وتستنفر لها أتباع المذهب ـ وهم الأكثرية الساحقة الماحقة من المسلمين ـ ضد الشيعة بعنوان إيران (الفارسية).
ولقد وفرت الرياض المباركة العربية لهذه الحرب عبر القمة العربية في شـــرم الشيخ، خصـــوصاً أنها ـ عملياً ـ قد أعلنتها فيها وعبرها، مستـــنفرة "العرب” ضد "الفرس” والأكثرية السنية ضد الأقلــية الشيعية. كما انها كانت واثقة من موقف "المجتمع الدولي” منها، وهو ما تجلى قبل أيــام عبر القرار الذي اتخـذه مجلس الأمن الدولي بالإجمـــاع، مع امتناع المندوب الروسي عن التصويت. فمن سيـــقف إلى جانب هذا المجهــول الذي اسمه "الحوثيـــون” في مواجهة المملكة المذهبة التي يواكبها في مطلبها مجموع العرب وأكثرية المسلمين؟
هل كانت مصادفة ان الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي قد غادر قصر الرئاسة في صنعاء، متسللاً، إلى عدن، ومنها تسلل إلى الرياض التي حملته إلى القمة لتؤكد شرعيته، عربياً؟ أم ان هذه الخطوة كانت ضرورية لإضفاء تغطية ملتبسة على الاجتياح السعودي بالنار لدولة عربية ذات سيادة، سرعان ما زكاها مجلس الأمن الدولي، كما كان ضرورياً استحضار خطر الاجتياح الإيراني، عشية الاتفاق الدولي مع طهران وقبل إنجازه، فتكسب السعودية فرصة إضافية لصفقة متكافئة مع إيران عبر نصرها السهل على اليمنيين الذين لا يجدون قوت يومهم، فمن أين لهم القدرة على صد حملة التدمير السعودية التي تستهدف وحدتهم الوطنية قبل السلطة في صنعاء وبعدها؟!
والحقيقة انها ليست المرة الأولى التي يتم فيها النفخ في نار الطائفية بل المذهبية لتبرير "التغيير” في صنعاء. لقد جرت محاولات كثيرة من قبل، ولعل تنصيب عبد ربه منصور هادي رئيساً مؤقتاً كاستنفار للجنوبيين لمواجهة الشماليين، مع التركيز على الربط بين حقبة الحكم الفاسد لعلي عبدالله صالح وبين الحوثيين، كان يستهدف تزوير طبيعة المعركة السياسية وتظهيرها كحرب شيعية مدعومة من إيران (الفارسية) ضد السنة العرب.
هل من الضروري التذكير بأن شعب اليمن قد انتصر، عبر تاريخه الحديث، وتحديداً بعد الثورة التي خلعت حكم الإمامة فيها (22 أيلول ـ 1962) ونصبت المشير عبدالله السلال رئيساً (مع مجلس لقيادة الثورة) على محاولة إثارة الفتنة. ويشهد التاريخ ان المملكة العربية السعودية هي التي عززت القبائلية وكذلك الطائفية بل والمذهبية في مواجهة الحكم الثوري الذي دعمته الجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبدالناصر، آنذاك. فهي من احتضن الإمام البدر ابن الإمام أحمد حميد الدين، الزيدي، والذي يمكن اعتباره بين أبرز "السادة” الذين ينتسب إليهم الحوثيون؟ وهل من الضروري التذكير بأن الدول الأجنبية ارحم بالعرب من بعض الأنظمة العربية التي تتبنى سياسات تحرض على الفتنة وتستثمرها في طمس مطالب شعوبها وإشغالها "بخصومها” من أشقائها في الهوية القومية كما في الدين؟
إن أقوى أسلحة "عاصفة الحزم” ليست الطائرات الحربية الأحدث والأقوى في التاريخ الحديث بصواريخها المؤهلة لتدمير دول وبلاد فقيرة إلى حد الإملاق، بل هي الفتنة.
ومن أسف ان بعض قادة الإمبريالية في العالم، وفي طليعتهم الرئيس الأميركي اوباما، لم يتورعوا عن توجيه ملاحظات قاسية إلى الحكم السعودي، عبر دعوته إلى الاهتمام بشعبه وحقوقه الطبيعية في ثروة بلاده، كما في حياة سياسية واجتماعية مقبولة يتوفر فيها الحد الأدنى من الحريات، وبينها حرية الرأي والتعبير وتشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، فضلاً عن حقوقهم بالحد الأدنى من الثروات الطبيعية لبلادهم، وفي الطليعة منها النفط.
لقد أهدرت في هذه الحرب المفتوحة كميات خرافية من الأموال على الجانبين: فالسعودية قد تكلفت مئات ملايين الدولارات ثمناً للصواريخ التي دمرت بها المرافق والمنشآت العسكرية والمدنية في اليمن الفقير إلى حد الإملاق، والذي سوف يحتاج إلى سنوات ضـوئية قبل ان يتمكن من إعادة بناء ما تهدم... علماً بأن هذه المنـشآت قد بنيت بأموال استنزفت طاقات اليمن، كما بهبات وقروض تنتظر من يسددها.
وبالتأكيد فإن ما أهدر في تدمير المرافق الحيوية في الدولة الفقيرة كان يكفي لبناء يمن جديدة مؤهلة لدخول عصر التقدم الإنساني، فضلاً عن تأمين السكن والتعليم والغذاء لهذا الشعب الفقير، والمبتلى بالقات والحكم الرديء والجار الظالم الذي يحاسبه على مكوناته الطبيعية.
على ان أخطر ما في "القضية اليمنية”، التي أضيفت الآن إلى مجموعة الجروح العربية النازفة، انها قد جعلت من "الفتنة” سياسة رسمية معتمدة، ليس فقط بديلاً من العروبة والوطنية بل ومن الإسلام كذلك.
وهذا أعظم انتصار يحققه العرب في القرن الحادي والعشرين على عدوهم القومي: إسرائيل!