نصرالله؛ حول الاستقلال والعلمانية والعروبة
ناهض حتر
بينما تذهب قوى إسلامية متدرجة من الليبرالية والأخونة إلى الوهابية والسلفية الإرهابية والمذهبية؛ وبينما يسقط مفكرون إسلاميون، قدّموا أنفسهم كعقلانيين، ومثقفون قوميون، قدموا أنفسهم كديموقراطيين، في مستنقع التماهي مع "النصرة” و”داعش” و”جيش الإسلام”؛ وبينما يصمت يساريون أو يقفون على "الحياد” حيال الكارثة الثقافية والأخلاقية والإنسانية التي تجتاح بلاد العرب؛ بينما يسود الظلام، وتتمدد الظلامية، يدهشنا قائد المقاومة الإسلامية، وسماحة السيد، وأمين حزب الله، باختراقات فكرية سياسية تقدمية، تمنحنا الأمل بتلاحم مشروع التحرر الوطني بمشروع المقاومة، وتكوين الكتلة الاجتماعية التاريخية، القادرة على تحقيق مهمات التقدم العربي.
أولاً، في التحرير والتحرّر. لا ينطوي مفهوم المقاومة، بحد ذاته، على مضمون اجتماعي- سياسي؛ هدف المقاومة هو تحرير بلد محتل أو أرض محتلة، من دون أن يطرح المقاومون، بالضرورة، الهدف التالي. تاريخياً، وباستثناء حركات المقاومة التي قادتها أحزاب شيوعية مهيمنة، لم ينته مشروع التحرير إلى مشروع تحرر عنوانه الأول هو الاستقلال، السياسي والاقتصادي والثقافي. أقرب نماذج المقاومات من هذا النوع، هو النموذج العراقي؛ لم يشهد التاريخ العربي قوة صدم للمحتل، كما فعلت المقاومة العراقية التي حققت هدفها في التحرير في وقت قياسي (2003 -2011)، لكنها فشلت في ضمان استقلال البلد ووحدته ووحدة مجتمعه، وإعادة بناء دولته وقدراته التنموية.
ينطبق ذلك، أيضاً، على المقاومة في لبنان؛ فهي تمكّنت من طرد المحتلين الإسرائيليين في العام 2000 وكسر قدرتهم على الردع، العام 2006، ولكن من دون تحقيق نتائج سياسية بالنسبة للبنان؛ فبقي تابعاً، ممزقاً، بلا دولة تنموية أو حتى خدمية، ومعقلاً للمؤامرات على المقاومة التي أنجزت التحرير والردع.
إلى وقت قريب، كان فكر السيّد وحزب الله يركّز على مفهوم المقاومة كحركة كفاح مسلّح، وعلى مجتمع المقاومة كبيئة حاضنة للحركة، تتفاعل معها على صعد مدنية، ولكن من دون طرح أي أفكار تحررية. التجربة القاسية، والبطولية، في سوريا، وضعت حزب الله وقائده في مواجهة استحقاق فكري رئيسي يتعلّق بأولوية مفهوم الاستقلال؛ لطالما سوّغ نصرالله كفاح حزبه في سوريا بالدفاع عن لبنانيين يقيمون على الأراضي السورية، وحماية مقامات آل البيت، والوفاء لسوريا التي تشكّل الجدار الاستنادي للمقاومة في لبنان وفلسطين. اليوم، تراجعت هذه المسوّغات، في فكر السيّد، لصالح التركيز على أولوية الدفاع عن استقلال سوريا. الميزة الأساسية للدولة الوطنية السورية استقلالها، وتدمير هذا الاستقلال مطلب الحرب الامبريالية الرجعية الارهابية عليها. قل ما شئت في نقد النظام السوري، إنما لا أحد يستطيع إلا أن يقرّ باستقلال قرارها السياسي والدفاعي والاقتصادي. وهذا الاستقلال هو أثمن ما لدى السوريين لأنه، رغم كل الصعوبات، يفتح باب الديموقراطية إذ لا ديموقراطية كنظام سياسي اجتماعي من دون استقلال وباب التنمية والتقدم الاجتماعي؛ إنها عملية صراعية؟ بالطبع، ولكنها تجري داخل سياق وطني. ولذلك، بالذات، هي ذات أفق مفتوح، بينما تغلق التبعية كل الآفاق التقدمية أمام الدول والمجتمعات.
وفي دفاعه الحار عن ثورة الشعب اليمني، ركّز السيد، قبل كل شيء، على حق اليمنيين بالتحرر من التبعية، وضمان استقلال وطنهم، كمقدمة لا بد منها لتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار في يمن آن له أن يكون سعيداً. ومثلما أن هدف الحرب السعودية الخليجية على سوريا يكمن في نزع استقلالها، فالعدوان على اليمن هدفه الرئيسي منع قيام دولة وطنية مستقلة في هذا البلد العربي العريق.
ثانياً، في العلمانية. ليست كل العلمانيات واحدة، وليست كلها إلحادية، وليست كلها غربية؛ العلمانية صيغة فكرية - سياسية، يتحدد مضمونها وفق ضرورات المجتمعات القومية؛ ففي المشرق، لا تقوم العلمانية على أساس الفصل الجذري بين الدين والسياسة، وإنما حيادية ومدنية الدولة الوطنية إزاء الطوائف والمذاهب والاتنيات، والقبول بالتعددية الدينية والمذهبية والثقافية، على أساس حقوق المواطنة الفردية وحقوق الإنسان. في تراث الإمام علي، نصٌ على هذا النوع من العلمانية؛ فالإنسان، عنده، اثنان: أخٌ لك في الدين، ونظيرٌ لك في الخَلْق، أي في الإنسانية. ولو كان مفهوم الدولة القومية، قائماً، في عصره، لأضاف: وشريكٌ لك في الدولة.
في فكره المقاوم، لطالما أعطى السيّد إشارات علمانية، بإلحاحه على أولوية المقاومة على الولاءات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية؛ لكنه، بعد التجربة السورية، واجه، وحزبه، حقيقة اندماج المجاهدين المقاومين في معركة الدفاع عن الدولة القومية العلمانية التعددية في سوريا، وتضحيات مقاومي حزب الله في معلولا، ماثلة، وما يزال مشهد التحية العسكرية لواحد من أبطال المقاومة أمام تمثال مريم العذراء فيها، شاهداً على تجذّر روح التعددية في ثقافة المقاومة.
من القتال في البوسنة، جنباً إلى جنب مع السلفيين والوهابيين، إلى القتال في معلولا، ضدهم، قفزة حملت حزب الله إلى موقع تقدمي، طوّره نصرالله، أخيراً، بإعادته الاعتبار إلى علمانيي المقاومة في لبنان، وتذكيره بجهود "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”؛ تلك التي أطلقت المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي، العام 1982. يستدعي هذا التطور، إعادة كتابة تاريخ المقاومة في لبنان، وفقا لمنظور تعددي. وسيكون ذلك العمل أساساً لتجذير ثقافة المقاومة والمواطنة في لبنان.
العروبة. ليست روح العروبة، بالنسبة لحركة المقاومة والتحرر في بلادنا، خياراً؛ إنها ضرورة للحم القوى الوطنية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية وتكويناتها الاجتماعية والجهوية والكيانية. وإلى ذلك، فنحن نواجه، اليوم، استخداماً مكثفاً ليافطة العروبة ضد العرب؛ (1) فالرجعية الوهابية ورعاتها في واشنطن وتل أبيب، تشن حملة شاملة على كل ما هو وطني وانساني وتقدمي وشريف عند الشعوب العربية، باسم العروبة. وهي مهزلة تنطلي، بسبب انتشار المذهبية وشبكة الاعلام الرجعي، على أقسام من الرأي العام في البلدان العربية، (2) وبالنسبة لحزب الله، تتمحور الدعاية الرجعية ضده على نفي صفته العربية، وإلحاقه، لا بالمعنى السياسي فقط، وانما بالمعنى الرمزي والهويتي، بالحليف الإيراني.
في مواجهة هذه الدعاية السوداء، وما تمثله من خداع وقهر، ذهب السيد إلى مكنون وجدانه العربي، فقدّم، في امتداحه للشعب اليمني العربي الأصيل، قائمة بصفات العرب لا ينطبق أيٌ منها على آل سعود؛ فالعرب، في وصف السيّد، أهل الفصاحة والبلاغة والحماسة وإباء الضيم والنخوة والغيرة والكرم والجود.
جاء الوقت، لكي يتخلى السيّد عن خفره، ليقول: نحن العرب! ومشكلتهم معنا أننا عرب!
أولئك آبائي؛ فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا، يا جرير، المجامعُ
ولا يستقيم مفهوم العروبة، إلا بالمدنية، وإلا بالسبق الحضاري عن الأديان والمذاهب؛ فقبل الاسلام، كان اليمنيون هم حضارة العرب. وحين كانت شبه الجزيرة العربية لا تتقن القراءة والكتابة، وتقتتل على ساقية ماء، ولا يعلو فيها مستوى سياسي على مستوى شيخ عشيرة، كان في اليمن حضارة ومدنية ودول وملوك، هم ملوك العرب.
في هذا النص، كثّف السيد، ما يميّز العرب -العرب، من صفات تدعو للاعتزاز القومي، وتوصّل إلى، وتواصل مع الفكر القومي العلماني، وعماده (1) استقلال العروبة، كمفهوم وانتماء وتاريخ وحضارة وثقافة، عن الأديان والمذاهب؛ فهي، إذاً، إطار تعددي لجميع مكوناتها، (2) مدنيّة العروبة؛ فلا عروبة إلا بالتمدن، وسواهم أعراب الصحراء.