في ذكرى غزو لبنان وحصار بيروت
عوني فرسخ
كانت حكومة مناحم بيغن قد قررت مطلع 1982 غزو لبنان لإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية منه. وفي 12 يناير/ كانون الثاني توجه وزير الدفاع آرييل شارون إلى جونيه، حيث عقد ومرافقوه اجتماعاً مع بشير الجميل قائد ميليشيا القوات اللبنانية وزعماء الانعزاليين الموارنة أوضح فيه أن الجيش "الإسرائيلي” سيمضي حتى أطراف بيروت الغربية مركز قيادة القوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية، ولكنه لن يدخلها، حتى لا يتحمل دولياً مسؤولية احتلال عاصمة عربية. وأكد أن إخراج الفدائيين منها مسؤولية القوات اللبنانية التي عليها استغلال هذه الفرصة التاريخية للسيطرة على بيروت كلها، ما سيؤدي إلى خروج القوات السورية بالطرق السياسية كما تفضل واشنطن ذلك. وختم بيانه قائلاً: "في حال رفض السوريون الخروج من لبنان، فإنكم تستطيعون أن تقيموا لأنفسكم دولة حرة تتأسس على تواصل إقليمي في الجنوب، في المناطق التي سنحتلها، وفي المناطق التي تسيطرون عليها اليوم، وفي عاصمتكم التي ستحرر على أيديكم”.
وفي أواخر إبريل/ نيسان 1982 تلقى سعيد كمال، ممثل فتح ومدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، مكالمة هاتفية من ستيفن كوهن، الناشط السياسي الأمريكي، يبلغه فيها أنه قادم إلى القاهرة للقائه لأمر مهم. فقام بإبلاغ الأمن القومي المصري وقيادة المنظمة في بيروت مستأذناً لقاءه فتلقى موافقة الطرفين، وفي لقاء كوهن أبلغه أنه يريد لقاء عاجلاً بياسر عرفات في بيروت، فأمنت لهما المخابرات المصرية طائرة عسكرية لذلك. وفي بيروت التقى كوهن بياسر عرفات وصلاح خلف، وخليل الوزير، وأبلغهم أن شارون قد يقوم بمهاجمة لبنان وصولاً إلى بيروت لإخراج قوات المنظمة منها، وأن لا الدول العربية، ولا السوفييت، سوف يتدخلون لمصلحتهم، لأن الجميع باتوا على قناعة بأن خروج قوات المنظمة من بيروت هو السبيل الوحيد لقبولها بقرار مجلس الأمن رقم 242.
وفي أول يونيو/ حزيران قرر الرئيس مبارك إعادة تحذير المنظمة، وطلب إلى المخابرات العامة الاتصال بقيادتها لإبلاغها بأنه حسب المعلومات المتوافرة، فإن شارون سيدخل لبنان بقوة كبيرة، وسيكمل زحفه إلى بيروت. وإذا قرروا إبطال حججه عليهم قبول وضع سلاحهم تحت رقابة دولية.
وفي 6/3 قام أحد فدائيي جماعة أبو نضال المنشقة بمحاولة اغتيال سفير "إسرائيل” في لندن ما اتخذها بيغن حجة لغزو لبنان مستهدفاً وأركان وزارته وقادة جيشه تحقيق أربعة أهداف متكاملة: إخراج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان، وتوفير الأمن لمستعمرات الجليل، وعقد معاهدة صلح مع لبنان، والضغط على سوريا لعقد تسوية مع "إسرائيل” أو خروج قواتها من لبنان. وكان يطمح لإقامة حلف بين "إسرائيل” ومصر ولبنان.
والثابت من المصادر الموثوقة، خاصة "الإسرائيلية” منها، أن الاجتياح لم يسر وفق ما قدره شارون وأركان جيشه، ولا كما قدر الخبراء الأمريكان، ولا كان أداء القوات المشتركة الفلسطينية واللبنانية بالصورة التي أظهرتها أغلبية أجهزة الإعلام التي سلطت الأضواء على أحد قادة فتح الذي أخلى موقعه ولاذ بالفرار من المواجهة، وكثفت الظلال على الملاحم التي دارت في قلعة الشقيف، والنبطية وعلى الطريق إليها، وفي صور، ومخيمي البرج الشمالي والرشيدية، وعلى أطراف صيدا التي فشلت أربع محاولات لاقتحامها، رغم حصارها بتسعة آلاف جندي. كما في معارك جزين ومخيم عين الحلوة حيث سقط 2200 جندي وضابط "إسرائيلي” بين قتيل وجريح. أو في الدامور حيث تصدى نحو 400 فدائي و 330 عنصر ميليشيا لفرقتين "إسرائيليتين”.
وعندما وصل الجيش "الإسرائيلي” بيروت، وأحكم حصار شطرها الغربي بالتعاون مع القوات اللبنانية، رفضت قيادة حزب الكتائب دخول القوات لقتال القوات المشتركة المتحصنة داخلها، برغم إلحاح شارون وإيتان. وقد أجمعت قواعد القوات المشتركة على مقاتلة العدو، وقد جاء إليها ورفعت شعار "حرب الشعب طويلة الأمد”.
وللتعجيل بخروج قوات المنظمة تكثفت الضغوط الأمريكية والرسمية اللبنانية، وأغلبية قادة الأحزاب والزعامات اللبنانية التقليدية التي راحت تلح على تجنيب بيروت ومواطنيها المدنيين تداعيات حرب لم يكونوا يرون في قدرة القوات المشتركة الصمود في مواجهة ما قدر بنحو مئة الف جندي من المشاة مدعومين بسلاحي الطيران والبحرية، فضلاً عن الدمار المتوقع للعاصمة اللبنانية.
وفي 14 يونيو/ تموز وّجه ياسر عرفات، من خلال الرئيس إلياس سركيس، تعهداً للموفد الأمريكي إلى لبنان فيليب حبيب، مبدياً فيه استعداد قوات منظمة التحرير للخروج من لبنان حرصاً على المواطنين المدنيين، ما أن تتوفر ضمانات حماية المخيمات وترتيبات الخروج. وقد ضمنت الولايات المتحدة للمنظمات الفلسطينية في بيروت بألا يلحق عائلاتهم أي أذى بعد أن يغادروا لبنان. وفي 30 أغسطس/ آب غادر ياسر عرفات بيروت منهياً وجود منظمة التحرير في لبنان بعد حرب قدرت لها قيادة الجيش "الإسرائيلي” 48 ساعة لتمتد 88 يوماً. فضلاً عن أنها كانت فشلاً ذريعاً لأهداف بيغن الأربعة:
فاتفاق 17 مايو/ أيار ،1983 الذي فرضه بيغن على الرئيس اللبناني أمين الجميل، انهته القوى الوطنية اللبنانية بدعم سوريا بعد عشرة شهور من توقيعه، برغم وجود الجيش "الإسرائيلي” على أرض لبنان. ولم يتحقق هدف إخراج القوات السورية من لبنان، وفرض التسوية المنشودة على سوريا. وعلى العكس من ذلك تعزز الدور السوري في لبنان باعتراف أغلبية المحللين السياسيين "الإسرائيليين” الذين تناولوا وجود "إسرائيل” في لبنان بالدراسة والتحليل.
صحيح أنه تم إخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ولكن ذلك لم يأت بالأمن لمستوطنات الجليل. إذ تنامى في الجنوب اللبناني وجود ودور المقاومة اللبنانية التي تدرب العديد من قادتها وكوادرها في صفوف المنظمات الفلسطينية، ووعت تماماً نواحي القصور لدى مدربيها، وبالتالي وعت دروس التجربة الفلسطينية المرة، فضلاً عن أنها انبثقت من أرض الجنوب اللبناني الذي شكل لها الحاضنة الوطنية على نحو متميز عما كان بالنسبة للأشقاء الضيوف.
ولأن فشل الاجتياح كان تاماً أصيب مناحم بيغن بالاكتئاب وانتهت حياته السياسية على نحو مأساوي. وبهذا يكون لبنان قد قهر بيغن وأفشل سعيه لقهر الإرادة الوطنية اللبنانية.