لقد أينعت وحان قطافها .. ’جمهورية الطائف’ هي الوجه الوقح ’ للجمهورية الأولى ’
لؤي توفيق حسن *
"الجنون هو أن تفعل الشيء مرةً بعد مرة وتتوقع نتيجة مختلفة "
-اينشتاين-
إنه الفراغ الرئاسي، الذي يلي الرئيس، وليس الرئيس الذي يلي رئيساً!! ظاهرة يتفرد فيها لبنان الآن فيما يبدو أنها لازمة من لازمات "نظام الطائف " الذي انكشف على أزمات متلاحقة بعد خروج (المايسترو) السوري عام 2005 . جاء سليمان من بعد فراغ دام ستة أشهر من الفراغ الرئاسي الذي أعقب خروح لحود من القصر, وها هو بدوره يخلف فراغاً مفتوحاً حتى إشعارٍ آخر. من جهة أخرى لم يكن حال تشكيل الحكومات بأفضل فبين الحكومة والأخرى هناك أزمة تشكيل حكومي، كان آخرها الشهور العشرة التي استغرقها تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام فيما البلاد في حالة من التعطيل لكون حكومة ميقاتي باتت بعد استقالتها في مرحلة تصريف الأعمال. كما لا ننسى أن الحكومة الميقاتية التي عاشت حوالي الثلاث سنوات كانت شبه مشلولة بين عراقيل وضعها أمامها فريق لبناني وبين تردد رئيسها بالذات الذي كان قلبه مع 14 آذار فيما عقلة مشتتاً بين مصالحه مع بعض الدول النفطية الراعية للفريق المذكور وبين القوى السياسية في الداخل التي جاءت به رئيساً للحكومة. قصص البؤس الحكومي كثيرة في جمهورية الطائف سواء بالإداء أو بالتناوب ول اسيما بعد مغادرة سوريا للبنان .
صيغ ملتبسـة
لعل ما سبق يظهر أن نظام الطائف غير قابل للحياة. والذي ثبت أن صيغه الدستورية الملتبسة تفرز أزمات. وكأني بالمشرع لدستور "الطائف” قد وضع أمام عينيه توزيع السلطات بالتراضي ووفقاً لمبدأ الحصص الطائفية دون النظر في وظيفة الدستور ما ترك ثغرات وزوايا غير واضحة فيه، والدليل على هذا فيما يلي، نسوقه على سبيل المثال من وحي الأزمة الحالية الناجمة عن فراغ سدة الرئاسة:
1- اللغط الدائر حول صلاحيات مجلس الوزراء عند شغور سدة الرئاسة والتي يمارسها وكالةً بموجب المادة 62 من الدستور. يرى بعض الخبراء القانونيين أن هذه الوكالة تتم بصورة انتقالية ومؤقتة وبالحدود التي تمكّنه من تسيير شؤون البلاد كون رئيس الجمهورية هو رأس كل السلطات ويستمد مكانته هذه من اليمين التي يقسم عليها أمام ممثلي الشعب. وهو ليس حال مجلس الوزراء رئيساً وأعضاء. بينما يرى بعض النواب أن ممارسة مجلس الوزراء للمهام الرئاسية غير مقيدة بنص دستوري يحول دون ممارستها.
2- اللغط الدائر حول جواز أو عدم جواز التشريع خلال شغور سدة الرئاسة. ذلك أنّ فريقاً وازناً من الحقوقيين الكبار، يعتقدون بأنّ عدم وجود رئيس للجمهورية يسقط إمكانية مراجعة ما يشرعه مجلس النواب في المجلس الدستوري لإبطال قانون ما، وبالتالي تغيب الرقابة عن التشريع، وهو الحق المناط برئيس الجمهورية. وهذا برأيهم سبب دستوري يحول دون ممارسة مجلس النواب سلطة التشريع. فالقانون ليس مجرّد عمل معبّر عن إرادة الشعب، إذ أضحى بعد إنشاء المجلس الدستوري الناظر في دستورية القوانين "لا يمثل الإرادة العامة إلاّ بقدر توافقه وأحكام الدستور”.
الفراغ الرئاسي في لبنان
لعل ما سبق دليل كاف على أن "الجمهورية الثانية” شكلت قفزة إلى الوراء قياساً بحال "الجمهورية الأولى ". ليس ذلك من باب الحنين لهذه الأخيرة بل لتوضيح أن المنشأ الطائفي لأمراض الدولة اللبنانية لا يمكن أن ينتج نظاما ً مفتوحاً على العصر أو أمكانية التطور، وأن كل الحلول التي تنبع من مراعاة الاعتبارات الطائفية سوف لن ينتج إلا الشيء ذاته، وربما بصورة أكثر صفاقة، وآخرها كان محاولة تمرير ما يسمى " القانون الأرثوذكسي”، الخاص بالانتخابات النيابية، والذي جاء تحت باب الحرص على المسيحيين للالتفاف على القانون المطلوب اي "لبنان دائرة انتخابية واحدة " من خارج القيد الطائفي، وهو القانون الذي اعترضت علية الشبكة الحاكمة بوصفه يكسر من احتكارها للسلطة. وعليه يمكننا بشكل آخر القول إن اية محاولة للبحث في حلول من خلال الأطر الحالية سوف لن ينتج عنه إلا الاسوأ كما هو حال "الجمهورية الثانية " ودستورها، التي تشكل بالواقع الوجه الفج والوقح "للجمهورية الأولى ". والنتيجة أمامنا، وهي في هذه التفليسة السياسية والأخلاقية والاقتصادية، حيث المديونية وحيث المؤسسات العاجزة أمام الاستحقاقات الدستورية وأيضاً العاجزة أمام الاستحقاقات الاجتماعية، تتجلى في هذه المراوحة في تلبية المطالب الشعبية بإقرار مشروع " سلسلة الرتب والرواتب " والتي تخدم صغار الكسبة والطبقات الوسطى التي تشكل في اي مجتمع وجهه الغالب وصمام أمانه.
الفرصة التاريخية
إنها الفرصة التاريخية أمام قوى التغير الديمقراطي للتحرك، وهي الفرصة النادرة التي تتلازم فيها الحركات الاجتماعية التي تأطرت من خلال "هيئة التنسيق”، مع عجز النظام السياسي عن إعادة إنتاج ذاته. وعليه فإن هذه القوى مدعوة إلى مواكبة "هيئة التنسيق " بعمل جبهوي واسع بعيداً عن ثنائية 8 و14 اذار، لكي تكون جاهزةً للنزول إلى الشارع بغية الضغط باقصى ما لديها من إمكانيات ، وبالوسائل السلمية والديمقراطية لإرغام الحكومة ومجلس النواب على إصدار قانون جديد للانتخابات النيابية تحقيقاً للمطلب الشعبي ووفق ما أوردناه حيث لبنان دائرة انتخابية واحدة من خارج القيد الطائفي، هو ذا المفتاح لتجديد الحياة السياسية في لبنان، لتصبح الخطوة التالية أن يتولى المجلس الجديد المنبثق عن هذا القانون انتخاب رئيسٍ للجمهورية، يليه فوراً وضع دستورٍ جديد للبلاد، أو بالحد الأدنى تعديلاتٍ جوهرية على "دستور الطائف " المتخلف لتلافي المطبات التي أوقعنا فيها. أما الآلية الدستورية لتحقيق هذا فهي بأحد طريقين: مشروع قانون معجل يضعه مجلس الوزراء ويحيله للمجلس النيابي للتصديق عليه بموجب المادة 58 من الدستور , وإذا تعذر تحقيق النصاب ما يحول دون انعقاد المجلس النيابي عندها يحق لمجلس الوزراء تصدير القانون بمرسوم عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية وأحكام الضرورة التي أستندت إليها هيئة التشريع والاستشارات في رأيها تاريخ 26/6/2013 . أما إذا تعذر هذا وذاك فعندها يصبح من حق الشعب الرد عليه بسحب توكيله المعطى للنواب، وذلك بأن يحول دون حضورهم للتجديد للمجلس عند انتهاء ولايته بوصف هذا نوعاً من التزوير لإرادة الشعب، أو باباً لسرقة السلطة، على أن يصار بعدها إلى انعقاد مؤتمر تأسيسي يضم أعضاء مجالس النقابات والاتحادات العمالية وممثلين عن الفعاليات السياسية والاجتماعية من أحزاب وجمعيات مدنية وشخصيات سياسية و أكاديمية بارزة بغية وضع دستور جديد لـ "الجمهورية الثالثة "إنه طريق شاق لما قد ينجم عنه من فوضى، لكنه من الممكن جداً تقليص مخاطره فيما لو انتقلت السلطة مؤقتاً إلى ثنائية الجيش والمجلس الأعلى للقضاء، على غرار ما حصل في مصر. نعم هو ذا آخر الطب، كما فعل السيد المسيح حينما اضطر لرفع الصوت كي يطرد الصيارفة من الهيكل قائلاً لهم : "مكتوب أن بيتي بيتاً للصلاة يدعى، أما أنتم فقد جعلتموه مغارةً للصوص "-(متى 21 , لوقا19)- .