توافق اللاتوافق والمصالحة المنتفية شروطها!
عبد اللطيف مهنا
تمخضت جلبة آخر حلقة في مسلسل المصالحات الفلسطينية التي تمت بين سلطتي رام الله وغزة، فولدت ما دعيت بـ”حكومة توافق” لسلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود الأوسلوية تحت الاحتلال.
هذه الحكومة والتي يرأسها رئيس سالفتها الدكتور رامي الحمدالله كانت الأقرب إلى تعديل لسابقتها منه إلى تشكيل لواحدة جديدة، إذ ضمت إلى جانب رئيسها ثمانية من وزراء قديمته ومن بينهم أصحاب للحقائب الرئيسة. أما المختلف فهو اقتصارها نظريًّا على التكنوقراط، أو من يوصفون بالمستقلين، بمعنى من لا انتماءات فصائلية معروفة لهم. إضافة إلى هذا، فقد وصفها رئيس السلطة التي أقسمت اليمين بين يديه، بأنها "انتقالية الطابع”، محددًا مهمتها بالإعداد للانتخابات المزمعة، هذا إن جرت رياح ما بعد تشكيلها وفق ما تشتهيه سفن التوافق، و”رعاية الأمور وتوفير الحاجات”، مشددا على أنها سوف "تواصل العمل وفق مرتكزات الحكومة السابقة”، أي لن تحيد عن ثوابته الأوسلوية، حيث أكد بما لا يدع مجالاً لمتشكك على أنها سوف "تلتزم بالطبع وكسابقاتها بالتزامات السلطة والاتفاقات الموقعة وببرنامجنا السياسي”. أما المفاوضات فأمر ليس من شأنها لأنه وفقما قال مسألة "كما كانت على الدوام ستبقى في ولاية منظمة التحرير”، بمعنى أنها تخصه وحده؛ أي لا علاقة لها بها.
إنصافًا للرجل، علينا هنا أن نعترف بأنه كان، وكما هي عادته منذ أن عرفته الساحة الفلسطينية، واضحًا في مواقفه ومنسجمًا مع منطقه ومتمسكاً بنهجه المعروف إياه ولا يحيد عنه، وإن في كل ما قاله في هذه المرة بالنسبة لمثل هذه الحكومة التوافقية ليس بالمختلف قيد أنملة مع كل ما كان قد كررة أكثر من مرة فيما هو سابق للتوافق على تشكيلها، وحتى قبل وبعد إعلان "اتفاق الشاطئ” الذي استولدها… لقد ظل يؤكد دائمًا على أنها سوف تكون "حكومتي”، وتعمل على أساس "برنامجي”، وتلتزم بشروط الرباعية الدولية التصفوية لجهة الاعتراف بالكيان الصهيوني، و”نبذ العنف”، بمعنى إسقاط خيار المقاومة، والالتزام بكافة الاتفاقات الأوسلوية التنازلية المعقودة مع المحتلين.
لما تقدم، فليس من المستغرب ولا هو من غير المنطقي خروج "حكومة التوافق” فور تشكيلها على مثل هذا التوافق الذي توَّج آخر هذه التقليعات التصالحية المتواترة في انقسام استمر لسبع من السنوات العجاف ابتليت بها ساحة تكسرت فيها النصال على النصال، فبدأت بإلغاء وزارة شؤون الأسرى والمحررين وتحويلها إلى هيئة غير حكومية تابعة للمنظمة، وهي التي ثار الجدل وتأخر التشكيل حتى كان التوافق على وجوب تشكيلها، وما كان هذا الإلغاء إلا كاستجابة أوسلوية لطلب أميركي ـ أوروبي مباشر، رافقه التهديد من قبل ما تسمى بـ”الدول المانحة” بوقف المساعدات التي تتكرم بها على السلطة إذا ضمت حكومتها التوافقية العتيدة مثل هذه الوزارة التي تعنى بشؤون هؤلاء الذين لا يرى هؤلاء المانحون فيهم إلا "إرهابيين” يقبعون خلف قضبان عدالة حلفائهم الصهاينة!
وعليه، فإن وصف حماس لإلغاء مثل هذه الوزارة بالانقلاب على اتفاق تشكيل الحكومة، واحتجاجها على ما رأته تدخلًا سافرًا من قبل الحمدالله في الشأن السياسي لأنه "يدعي بأن لحكومته برنامجًا سياسيًّا علمًا أن اتفاق المصالحة ينص على أنها حكومة مهمات وليس لها أي برنامج سياسي”، على صحته، ليس له محل من الإعراب أوسلويًّا، ويأتي الأشبه ما يكون بالمثل المتواتر، أشبعتهم سبًّا وفروا بالإبل! فهي حكومة، بتوافق أم من دونه، أوسلوية أولًا وأخيرًا، وشكلت بتوافق يتم داخل ملعب أوسلو ذاته؛ أي محكومة باللعب داخل قفصها، وتظل المرتهنة لمسارها… وكانت في كل الأحوال ثمرة لنوع من مصالحة لحاجة مرحلية وفصائلية السمة، أي ليست وطنية شاملة تتم على أساس برنامج إجماع وطني مقاوم، وبذا كان كل ما كان منها أنها قد أجلت الخلافات بين طرفيها النقيضين برنامجيًّا ولم تحلها…
توافق في ظل عدم توحيد الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع، وجارٍ التنسيق الأمني مع العدو الذي وصفه رئيس السلطة بـ”المقدَّس”، والذي قال إننا "سنستمر به، اتفقنا أو اختلفنا مع الإسرائيليين”، ناهيك عن عدم التزام حكومة التوافق المشكَّلة هذه تجاه ما يربو على 41 ألف موظف غزي عملوا في ظل الحكومة المقالة!
كنا سابقًا قد وصفنا في أحد مقالاتنا "اتفاق الشاطئ”، الذي تمخض جبله فولد حكومة الحمدالله المعدَّلة، بأنه توافق تكتيكي ومصالحة اضطرار، ولأسباب عدة عددناها حينها، وأهمها، رام الله لانسداد أفق مسارها التفاوضي العبثي، وغزة لفداحة مكابدتها لخانق الحصار.
لذا فإن وصف راهن هذه المصالحة على ضوء حديث الحكومة المنقلبة على توافق استولدها بالهشاشة لا يستقيم، لأن مصالحة لا تكون على أساس برنامج، ولو حدا أدنى، لكنه وطني ونضالي ومقاوم ومتفق عليه، وبمشاركة شاملة من كامل ألوان الطيف النضالي في الساحة الوطنية، ما هي إلا نوع من التكاذب الذي لا يرقى حتى لمستوى الهشاشة، وكل توافق مبني عليها هو نوع من مخاتلة ولعب في وقت تضيع فيه الأرض بفعل عجلة التهويد الدائرة على مدار الساعة… لذا وبعيدًا عن الهوبرة والوعيد والإجراءات العقابية الصهيونية إثر التوافق الذي نجم عنه تشكيل الحكومة المنقلبة على توافقها، فإن إعلان واشنطن بأنها ستواصل العمل معها هو شهادة حسن سلوك تصفوي مسبقة لها… ونعي مبكر لتوافق استند لمصالحة انتفت شروطها.