اليوم التالي لإيران.. من زوايا استراتيجية أبعد
حسن شقير
وأخيراً تصاعد الدخان النووي الأبيض من مدخنة لوزان السويسرية، وذلك بعد الإعلان عن التفاهم على البيان المشترك لإطار الإتفاق النووي المنشود في الأشهر الثلاث القادمة..
يمكن لتاريخ الثاني من نيسان من العام ٢٠١٥ - إن سارت الأمور على ما هو مرسوم لها - بأن يصبح تاريخاً لتهشيم الساعة الثالثة من ساعات الرئيس السابق للإستخبارات الصهيونية عاموس يادلين، والتي كانت تحت عنوان "ساعة إهتزاز استقرار النظام”، والتي يبدو أن تاريخ الأمس، قد وطد وأرسى دعائم صلبة حول ذاك النظام وسياساته الدولية لدى كافة الشرائح الشعبية الإيرانية من الجيل الثالث للثورة الإسلامية.
ما إن تُلي بيان التفاهم، حتى اعتلى الرئيس الأمريكي منصة البيت الأبيض، شارحاً، معللاً، مفنداً... حول الضرورات التي دفعت بأمريكا لسلوك طريق التفاوض، وذلك كبديلٍ للحرب التي تؤخر البرنامج النووي ولا تلغيه، وكإدراكٍ مسبق بأن تشديد العقوبات لن يجعل من إيران مرتدعة، لا بل إنها ستعيد أمريكا الى مربع الحرب مجدداً... فكان طريق التفاوض كخيار وحيد لجعل الجميع رابح - رابح، وذلك وفقاً لمقولة الرئيس الإيراني الشهيرة.
استكمالاً لما ذهبت إليه في مقالتي السابقة، حول إختلاف النظرتين الأمريكية والإيرانية في آليات وزمن مواجهة الإرهاب في المنطقة، وعلاقة ذلك بكونها العقدة الأساس في الرفض الإيراني للإتفاق المتتالي، والإصرار الحتمي على مسألة التزامن ما بين التوقيع والرفع، وإن كان هذا الأخير تدريجياً، والذي يبدو أن مفاوضات لوزان بالأمس، قد ثبتته، وبالتالي فإن هذا الإنتصار، هو الثاني لإيران، بعد فصل سلال التفاوض، سيفرض على المتابع أن يستشرف الزاويا الإستراتيجية لإنعكاس هذا الرضوخ الأمريكي الثاني.
في اليوم التالي لتثبيت الإتفاق المتزامن ستبدأ التحليلات والقراءات التي تُعنى بموقع ودور إيران الإقليمي، وكيف سينعكس هذا الإتفاق على الملفات الشائكة في المنطقة، سلباً أم إيجاباً، وستنقسم الآراء ضمن فسطاطين اثنين، أحدهما سيذهب بأن عُقد المنطقة قد وُضعت على طريق الحل، أما الآخر، واستناداً لما يدور اليوم من أحداث كبرى في المنطقة، وتكوّن أحلاف جديدة، وقيام نواة لقوات عسكرية ضاربة.. يرى أن ما حصل سيؤشر إلى أن ميدان الصراع سيغلق في النووي، ليفتح على مصراعيه فيما وراء النووي، ومن أمامه أيضاً..
لقد تناولنا في مقالة "استحقاقات كبرى فيما وراء النووي” والمنشورة بتاريخ 24-11-2014، بأن هناك ثلاثة استحقاقات كبرى، تقف فيما وراء النووي، بحيث تأكد لنا بالأمس - وبعد كلام ظريف وأوباما والأوساط الصهيونية - بأن زمانها قد آن أوانها، وهي تتمثل في الإستحقاق الإقليمي، والاقتصادي، وكذا الصهيوني، والتي فصّلنا في كل منها في حينه..
في ٢ كانون الأول من العام ٢٠١٣، توصلت، ضمن مقالة كانت تحت عنوان "نووي إيران يفضح الخلاف الصهيوأمريكي”، إلى أن نووي إيران، بعد توقيع الإتفاق المرحلي، كان قد فضح الخلاف الصهيوأمريكي تماماً، وذلك في مجالات ثلاث: العقوبات، البيئة الجفرافية العربية المستجدة، والإرهاب ومسار محاربته ومكوثه في المنطقة..
بعد الذي حدث بالأمس، يبدو أن رؤية أوباما في نظرته لهذه المجالات الثلاثة، هي التي فُرضت في لوزان - وذلك ضمن حساباته - فرفع العقوبات، وفقاْ للمطلب الإيراني في التزامن، سيُستثمر - كتحقيقٍ لرؤية نتنياهو مع المفارقة - لدى أطراف الممانعة مجتمعين في تعزيز عرى التكامل بين الرأس الممانع والأذرع المحيطة بالكيان الصهيوني من جهة، وفي محاربة الإرهاب من جهة ثانية، والذي سيكرر نموذج تكريت، سواء في العراق، أو حتى لاحقاً في سوريا، فضلا ً عن أن الدول العربية وتحديداً الخليجية منها، لا بد أنها ستخضع لمنطق الانكشاف المتزايد أمام النفوذ الإيراني - المتفلّت من قيود الملف النووي - في المنطقة، هذا فضلا ً عن إمكانية بدء زمن مكوثها - أي هذه الدول - تحت مقصلة التساؤلات الداخلية، أو حتى الخارجية، وذلك تأسيساً على فقدانها لورقة ضغطٍ نووية، كانت تراهن عليها في يوم من الأيام..
بهذه النتائج الأولية، يكون البيان - التفاهم، والإتفاق المتزامن لاحقاً، قد حقق لإيران قفزة طويلة في استعادة بوصلة الصراع مع الكيان الصهيوني، والذي جهد كثرٌ، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية في حرفها عنه.. الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً أمام استحقاقات كبرى في المنطقة، كانت تقف حتى الأمس القريب، فيما وراء النووي.
إذا تخطى البيان النووي شياطين التفاصيل في الأشهر الثلاثة القادمة، ووصل بخواتيمه إلى مرحلة توقيع الإتفاق قبيل نهاية حزيران القادم - كما هو مرسوم - فإن قراءة أولية لتداعيات ما تم الإتفاق عليه، يمكن رصد مؤشراتها ضمن زاويتين استراتيجيتين واسعتين، داخلية ودولية:
الزاوية الداخلية:
إذا خرجنا قليلا ً من تلك الزوايا المهمة التي تعرضنا إليها أعلاه، إلى زاوية استراتيجية أبعد من ذلك، تندرج في سياق العلاقة الوثيقة فيما بين تطور نظرة الرأي العام في الداخل الإيراني لسياسة النظام الإسلامي النووية في كل هذه السنوات التي خلت، فإننا نجد بأن هذا التفاهم النووي الأولي، وهذا الإذعان الأمريكي لمبدأ التزامن، سيحقق بدقة ما ذهبت إليه في مقالة سابقة، حول معركة الرأي العام في الملف النووي، بحيث أن أوباما يكون اليوم قد أحيا - دون أن يقصد - الرأي العام الثوري في إيران خلف قيادته المحافظة في تبنيها للمرونة البطولية، وذلك بعدما كان يأمل أن يجهضه في اللعب على التتالي، وذلك وفقاً لعقيدة الحرب الناعمة التي يديرها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، الأمر الذي سيجعل من إيران - الثورة، وإيران النظام السياسي، بوجهه الإسلامي، وعلى الطريقة الإيرانية - وبلا شك - أنموذجاً يُحتذى، أو على الأقل يُتوقف عنده، ولدى الكثير من النخب السياسية في العالم العربي، عاجلا ً كان ذلك أم أجلا ً..
زاوية النظام العالمي الجديد:
زاوية استراتيجية ثانية لا بدّ من الإضاءة عليها أيضاً، وهي جدلية العلاقة حول موقع الإتفاق النووي بحلته الإيرانية، في منظومة النظام العالمي الجديد، والذي يعيش العالم والمنطقة تحديداً مخاض ولادته العسيرة هذه الأيام، وذلك بفضل التحايل والاستماتة الأمريكية بالتربع في أحاديته السابقة، لذلك فإن التفاهم ، والإتفاق المتزامن اللاحق، سيكون بلا شك عاملاً رافداً ومهماً في الولوج بإيران إلى عتبة النظام العالمي الجديد، وهذا مرده إلى أن إيران المتحررة من سيف التتالي بين التوقيع والرفع، سيجعلها تدخل في هذه المنظومة الدولية الجديدة، كدولة قوية وقيمة مضافة لمن ينتظرها ويشاركها في ضرورة وأد النظام الدولي الأحادي، سواء منظمة شنغهاي، أو مجموعة البريكس، أوغيرها من التكتلات الدولية والإقليمية الأخرى، والتي عانت الأمرّين من تلك الأحادية.. وهذه الزاوية لا نعتقد أنها غابت للحظة واحدة عن الفكر الاستراتيجي للعقل النووي المفاوض في لوزان..
خلاصة القول، وبعد ولوج عتبة الإتفاق النووي الإيراني - الغربي، فإن ذلك سيكون له تداعيات كبرى على مسار العلاقات البينية بين الدول، الدولية منها، فضلا ً عن الإقليمية.. فدعوة أوباما غداة إعلان البيان - التفاهم ، لقادة دول مجلس التعاون الخليجي إلى الاجتماع به لاحقاً في منتجع كامب ديفيد.. لها دلالات جمة، تٌؤشر بقوة على الحرص الأمريكي على بلورة وصياغة صورة المنطقة والعالم كله على حد سواء، وذلك كله سيأتي فيما بعد توقيع الإتفاق النووي الإيراني قبل نهاية حزيران القادم..