kayhan.ir

رمز الخبر: 169105
تأريخ النشر : 2023May12 - 21:28

المقاومة وقانون الحرب00 ذكاء إدارة الوقت

ناصر قنديل

للحرب قوانين كما للفيزياء، ومن أهم قوانين الحرب قانون إدارة الوقت، وذكاء إدارة الوقت عامل حاسم في صناعة النصر، ويتوزّع ذكاء إدارة الوقت على محاور وعناوين، أولها توظيف هذه الإدارة في خدمة هدف إطالة أمد الحرب أم اختصار وقتها الى اقصى حد ممكن، والثاني توظيف إدارة الوقت في خدمة صمود الجبهة الداخلية، والثالث توظيف إدارة الوقت في خدمة وحدة الصف السياسي والعسكري، والرابع توظيف إدارة الوقت في خدمة تحقيق الأهداف التكتيكية التي رُسمت للحرب، والخامس توظيف إدارة الوقت في التفاوض، والسادس توظيف إدارة الوقت في خدمة هدف استراتيجي على الأقل، والسابع إدارة الوقت في خدمة جعل الحرب طريقاً لتفادي حرب مشابهة في الشكل أو في الأهداف، ومن ينجح من الطرفين المتحاربين في جعل إدارة الوقت لصالحه في هذه العناوين سوف يضمن النصر في نهايتها.

بالرغم من نجاح كيان الاحتلال وجيشه ومخابراته في السيطرة على إدارة الوقت لجهة المبادرة المفاجئة بالحرب، وتحقيق أهداف بشرية وميدانية ومعنوية كبرى في الضربة الأولى، كانت كافية للتسبب بالارتباك في صفوف المقاومة بعد إفقادها قدرة السيطرة على إدارة الوقت، وانصرافها إلى احتواء خسائرها المادية والمعنوية لإعادة ترتيب صفوفها، فإن ما مضى من أيام الحرب يكفي لتقديم تقييم أوليّ على حاصل المنافسة بين كيان الاحتلال وجيشه ومخابراته من جهة، وقوى المقاومة من جهة مقابلة، للقول إن المقاومة تسبق الكيان بعدة خطوات على الأقل، رغم تفاوت الإمكانات النارية والمادية والتخطيطية والسيطرة على النار والجغرافيا بالتقنيات التجسسيّة العالية الدقة.

كلما مر الوقت تراجع تأثير الصدمة التي حققها الكيان بالضربة الأولى وتراجعت مفاعيلها المعنوية والمادية، وتأقلم مشهد الحرب مع الحدث الراهن، وبينما لا مبرّر للجدال حول حتمية سعي الكيان إلى تقصير أمد الحرب، وقطف ثمارها طازجة على كعب الاغتيالات التي قدمت عنه صورة التفوق والهيمنة على مسار المواجهة. وقد أظهرت مساعي وقف النار التي بذلها قادة الكيان هذه الحقيقة، بينما كان البديهي أن تسعى قوى المقاومة الى إطالة أمد الحرب، رغم ضعف إمكاناتها والخشية من ضغط الوقت عليها في استنفاد مخزونها وقدرتها على مواصلة إطلاق الصواريخ، وظهر ذكاء إدارة الوقت في استهلاك جزء كبير منه بدفع الكيان للانتظار مرات عديدة، واستخدام الصمت الناري لاستهلاك الوقت، وبالتوازي وضع شروط صعبة لوقف النار تعكس في حال تحقيق نسبة منها انتصاراً للمقاومة وخسارة جسيمة للكيان، والاحتماء وراء هذه الشروط للحفاظ على إطالة أمد الحرب، والأكيد بلا لبس أنه كلما طال أمد الحرب اقتربت المقاومة من النصر، اقترب الاحتلال من الهزيمة.

تغافلت المقاومة عن إصرار قيادة الكيان على أن الحرب مع حركة الجهاد الإسلامي وحدها، واكتفت بإصدار بيانات الغرفة المشتركة تأكيداً على وحدتها وطمأنة شارعها وحلفائها الى إحباط محاولات تفتيت صفوفها والاستفراد ببعضها وتحييد بعضها الآخر، وكانت ثمرة هذا التغافل الذكي على إدارة الوقت، إتاحة المجال لحماية الجبهة الداخلية للمقاومة عبر ربط المواجهة الشاملة التي تستهدف خلالها المنشآت والمؤسسات والتجمعات السكنية والخدميّة في غزة، برد يطال المؤسسات الاقتصادية الكبرى مثل منصات الغاز ومحطات توليد الكهرباء ومحطات القطارات، وسواها، فبقيت الجبهة الداخلية للمقاومة عملياً بمنأى عن تداعيات الحرب وخسائرها بنسبة كبيرة، بينما صبّت المقاومة صواريخها على مساحة الكيان بما يطال الروح المعنوية للسكان، ويزرع الذعر حتى في الانتظار، وتأتي الصواريخ تكمل ما صنعه رعب الانتظار، وكل يوم يمضي وفقاً لهذه المعادلة تراكم المقاومة عبر إدارة الوقت مزيداً من القدرة على الصمود في جبهتها الداخلية، ومزيداً من التفكك في جبهة الاحتلال الداخلية، التي تمثلها قدرة الناس على التحمل وحالتها المعنوية. وفي اللحظة التي يقرر فيها الاحتلال تغيير قواعد الاشتباك وتوسيعها لتطال العمق السكاني في غزة سوف يكون الثمن كفيلاً بجعل كلفة الحرب على عمق الكيان أكبر بكثير، ما منح المقاومة التفوّق بخطوة وفرض على الاحتلال التراجع بخطوة لا يزال عالقاً فيها بين الخيارات الصعبة مقابل خيارات المقاومة المفتوحة.

أسهم تغافل المقاومة عن لعبة الكيان بحصر المعركة بالجهاد في تسهيل تحقيق هدف وحدة الصف السياسي والعسكري، خصوصاً بين حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، كما يظهر الميدان وبيانات غرفة العمليات المشتركة من جهة، وإجبار الاحتلال على تحييد مواقع حماس وقيادتها وكوادرها من الاستهداف، وجاء رسم السقف السياسي المشترك للحرب بصورة مبكرة ضامناً لعدم حدوث تباينات لاحقة مع تقدّم أيام الحرب. وهنا إدارة ذكية للوقت، ففي اللحظات الأولى لبدء الحرب يمكن التوصل لتفاهمات على سقوف أعلى من تلك التي يمكن أن تحدث الفرقة عندما تتقدّم أيام الحرب وضغوطها. وهنا شراكة التفاوض تحت هذا السقف ضمان لتدعيم الوحدة، وعناوينها وقف الاغتيالات وتسليم جثمان الشيخ خضر عدنان وإلغاء دخول مسيرات الأعلام الى القدس القديمة، وترك الوجبة النارية الأخيرة للمقاومة طالما أن الاحتلال كان هو البادئ؛ بينما بالمقابل تقف قيادة الكيان كلما مر الوقت أمام صعوبات التماسك في ظل طبيعة شروط وقف النار، التي تعني عملياً شطب الجناح الشديد التطرف الذي يتقدمه ايتمار بن غفير، بإلغاء التزام حكومة نتنياهو ببرنامجه، وفتح الطريق لتوسيع شقة الخلاف بين نتنياهو والمعارضة التي رغم تأييدها للخطوة الأولى في الحرب بدأت تتحدّث عن الحاجة لوقف سريع لها.

في ذكاء إدارة الوقت، يبدو الهدف التكتيكي للمقاومة إسقاط نظرية القبة الحديدية، وقدرتها على تشكيل ضمان وعدت قيادة الكيان جمهورها بأنها الضامن لأمنهم من صواريخ المقاومة، وقد أظهرت المقاومة هنا ذكاء استثنائياً، فأعدّت مفاجآت عسكرية تقنية تتصل بزيادة قدرة الصواريخ على التملص، واعتماد تقنية تكتيكية تعتمد طريقة إطلاق للصواريخ تستثمر على التوقيت الموحّد للإطلاق بكثافة ثم الصمت الطويل، وعدم الخضوع لمعادلة ملء الوقت بالإطلاق، ويكفي خسارة للكيان أن تكون المقاومة قد نجحت بإثبات الفشل الذريع للقبة الحديدية، وفي إعلان جيش الاحتلال عن اطلاق المقاومة قرابة 900 صاروخ لم تنجح القبة بصد أكثر من 20% منها خير اعتراف بهذه النتيجة، ومشاهد مساكن تل أبيب تحترق كفيل بجعل الحصيلة ذات مشهديّة معبرة لا يمكن محو آثارها بتصريحات نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالنت.

الوقت سلاح تفاوضي خطير، خصوصاً عندما يكون أحد الطرفين مرتاح لعلاقته بالوقت، والثاني تحت ضغط الحاجة لإنهاء الحرب، فهذا يمنح مفاوضي المقاومة الذين يدركون حجم قدرتهم على المناورة والتمسك بالشروط، مقابل مفاوض مضغوط من قيادته بالعجلة والحاجة للتوصل الى اتفاق لوقف النار، فتبدأ كفة التفاوض تميل لصالح برنامج المقاومة وشروطها، ويفقد الكيان القدرة على خوض التفاوض بشروطه لأنه عاجز عن تحمل استمرار الحرب، وهو ما تؤكده المعلومات الآتية من القاهرة حول قبول مفاوضي الكيان بالبحث بشروط المقاومة، بعد أن هدّدوا بالانسحاب وإنهاء التفاوض في المرة الأولى عند تبلغهم هذه الشروط.

لم يتبقّ لقادة الكيان هدف استراتيجي للحرب، وقد دخلوا فوراً مرحلة الحاجة لوقف النار، ووقعوا في مأزق الخيارات الصعبة بين توسيع نطاق الحرب بإدراج حماس شريكاً وبالتالي غزة ومنشآتها وسكانها، وتلقي ثمن مؤلم دون أفق لإنهاء الحرب، ومأزق قبول الشروط وأثمانها لتحقيق وقف النار، أو البقاء في وضعية كيس الملاكمة الذي يتلقى الضربات من زاوية عدم امتلاكه للخطة مقابل امتلاك المقاومة لخطة متكاملة. فالهدف الاستراتيجي للمقاومة واضح، وهو على الأقل بالإضافة لتكريس معادلة الردع والتفوق، دمج الحرب بموعد مسيرات الأعلام وإلغائها عملياً تحت النار أو الحصول على قرار بإلغائها، ووضع إطار لحماية الحركة الأسيرة من بوابة قضية الشهيد خضر عدنان، وضمان وقف الاغتيالات تحت طائلة معادلة «إن عدتم عدنا»، وتحقيق واحد من هذه الأهداف له قيمة استراتيجية عالية فكيف لاثنين أو ثلاثة منها وماذا لو تحققت كلها؟

إذا انتهت هذه الحرب وفقاً لخطة المقاومة، فهي سوف تتكفل بالحؤول دون انفجار جولة جديدة تحت الحسابات والعناوين ذاتهما. وهو أهم درس تعلمته المقاومة من تجارب وقف النار السابقة حيث بقيت العناوين معلقة بين أيدي الوسطاء، ولم تتبلور كإطار واضح لوقف الحرب لتتحول إلى قواعد اشتباك لاحقة.

المقاومة تتقدم بعدة خطوات على الأقل على كيان الاحتلال، وعنوان التفوق الراهن ذكاء ادارة الوقت، وتلك شهادة لجنرالاتها الذين تفوقوا بما لا يقبل النقاش على جنرالات واحد من أهم جيوش العالم في إتقان قوانين الحرب وإدارتها، في أشدّ بنودها حاجة للمهارة والذكاء، وهو إدارة الوقت.