الفشل العظيم
أحمد فؤاد
خلص الفيلسوف الألماني الأشهر كارل ماركس، في دراساته للتاريخ والمادية إلى ما يمكن اعتبارها قاعدة ذهبية، تنطبق على المجتمعات التي لا تقرأ ولا تتعلم وتقاوم التغيير، وهي أن التاريخ من الممكن أن يكرر نفسه مرتين، مرة متخذًا شكل مأساة، ومرة ثانية في صورة مهزلة، ومع الأسى والألم، لا يبدو إلا أن العالم العربي قد قرر أن يعيد تمثيل الكارثة الإنسانية المروعة عشرات ومئات المرات، دون أن تفتر حماسته لمبدأ الفشل العظيم.
من جديد تعود إلى لبنان سيرة الحل الجذري لمشكلات البلد والناس، عبر تصريحات صادرة من وزير خارجية الجمهورية الإسلامية، حسين أمير عبر اللهيان، بعرض كريم للمساعدة والتعاون في إنجاز ملف "الكهرباء"، وتقديم الدعم للبنان في استعادة هذا القطاع الحيوي لقدراته، وتخليص المواطنين من كابوس ثقيل، طال واستمر، بلا سبب وبتكاليف هائلة تدفعها كل قطاعات الاقتصاد، المرتبطة حتمًا بتوفر الطاقة المحركة.
في الغالب، وكما حدث من قبل ولمرات عديدة، فإن النخب المتغربنة سترفض أو على الأقل لن ترد على العرض الإيراني الأحدث، كما حدث بوجه عروض إيرانية وصينية سابقة، وستواصل الرهان على الغرب كملجأ وحل، ومع استمرار الأزمة سترفع من وتيرة نعيقها بوجه مشروع المقاومة بشكل خاص، أو التوجه إلى البديل الشرقي القائم بشكل عام، وستحاول بكل ما أوتيت من قوة إثبات الولاء المطلق لأسيادها وأربابها في واشنطن.
هذا الخيار الغبي أصبح عنوانًا لمرحلة هي الأسوأ في تاريخ لبنان، الرهان على الغربي ليس رهانًا لكنه مبدأ وقضية مسلم بها بين أصحاب هذا الاتجاه، لا يتعلمون من التاريخ ومن جرائم الغرب بحق كل شعوب الأرض شيئًا، إنها بالفعل نخبة مثقوبة الوعي والإرادة.
والوضع الحالي للبنان، في خضم أزمة اقتصادية عنيفة قائمة ومستمرة، لم يعد بحاجة لشرح بعد، الأسلوب الغربي في إدارة الاقتصاد الوطني لم يترك موضعًا سليمًا في الجسد، والدولة تكاد تفقد مقومات بقائها في نظر الغالبية الساحقة من مواطنيها، أو تتحول ببطء وحسم إلى قضية خاسرة ومكلفة، لا تعليم ولا صحة ولا دعم ولا غذاء ولا سكن ولا خدمات عامة ولا صناعة ولا زراعة ولا نقل، لا كساء أو دواء ولا قيمة للنقود ولا قطاع عام ولا تدخل في تحديد أرباح القطاع الخاص، ولا تعيينات جديدة ولا حد أدنى أو أقصى للأجور ولا تسعيرة أو حماية للفقراء، هذه هي الحرية الاقتصادية المزعومة، وعلى جانب المأساة الإنسانية، طبقات طفيلية تثري وتغنم من الألم والموت، وتبدد الموارد والحقوق والثروة وترتبط بمصالح عنكبوتية شيطانية مع الخارج.
ما الذي يمكن أن يقدمه الغرب فعلًا للبنان أو لغيره؟ التاريخ الغربي فيما يخص معاملتهم لنا يخبرنا. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى منحت بريطانيا مكافأة الخدمة المتفانية للشعب الهندي المسكين، الذي صدق وعود نخبته وقادة أحزابه أصحاب الهوى الإنجليزي، وقدم 1.3 مليون جندي لجهود بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، مات وأصيب نحو 15% منهم، لتأمين الانتصار للتاج البريطاني، وحسب تعليق المارشال الميداني السير كلود أوشينليك، فإن الإنجليز لم يكن لهم أن يحلموا بالنصر في الحرب العالمية الأولى أو الثانية لولا الجيش الهندي.
في يوم 13 نيسان إبريل 1919، ارتكب الجيش البريطاني بقيادة العميد ريجنالد داير واحدة من أعظم مذابحه المعروفة بحق الهنود، فتح الجنود النار على آلاف المواطنين المتجمعين في حديقة جاليانوالا باغ الوطنية ذات الأهمية الدينية، بمدينة أمريتسار شمال الهند، في وجه المحتفلين بانطلاق السنة البنجابية الجديدة، وظل إطلاق النار مستمرًا من قبل الفرق العسكرية البريطانية حتى نفدت ذخيرتها، وقدر حزب المؤتمر الوطني الهندي ضحايا اليوم المشؤوم بنحو 1000 قتيل و1500 جريح.
وبعد انتشار أخبار المجزرة البشعة، التي جرت ضد مدنيين عزل، وفي وقت قيامهم بطقوس دينية، فإن بريطانيا المتحضرة لم تسعَ إلا إلى طمس الأدلة وإزالة الآثار التي تدينها، وعقب جلسة في مجلس العموم البريطاني، قال فيها المجرم داير صراحة إنه "لم يصدر تحذيرات للمواطنين المحتشدين في الحديقة، وأنه أمر قواته بفتح النار على أكثر الأماكن ازدحامًا بهدف القتل، ولم يوقف البنادق والرشاشات سوى نفاد الذخيرة"، فإن الضمير البريطاني لم يجد داعيًا لمحاكمته، واكتفى بإبعاده عن القيادة، بينما تولت الصحف اللندنية مهمة جمع تبرعات كجائزة نهاية خدمة للسفاح، بلغت 26 ألف جنيه إسترليني، وهو مبلغ قياسي بمعايير ذلك الزمان.
هذا التعامل الغربي مع غيره من الأمم والشعوب هو السياسة الثابتة، والتي لن يغيرها، مهما حاول المنافقون إقناعنا بأن الغرب سيقدم لنا العون إذا ما تخلينا عن طريق المقاومة أو سلاحها، أو أن الغرب هو جمعية خيرية تستهدف الإحسان لغيرها من شعوب الأرض، في الحقيقة فإنه وبدون السلاح فإن مصير الهنود الحمر وغير الحمر هو ما ينتظرنا من الغرب، من الإنجليزي والأميركي والفرنسي، ومذابحهم بحق الشعوب يندى لها الجبين الإنساني، وهي موزعة على امتداد القارات، ومثبتة في كل التواريخ والسنوات، إن ما يمنع مصيرًا كهذا هو فقط سلاح المقاومة.
أما عن الوصفة الغربية للإصلاح، والتي يردد ببغاوات الإعلام العربي أنها للإصلاح، وكأن كل مشاكلنا وأزماتنا لا تنبع أصلا من النهب الغربي أو أنها بسبب الفساد وحده، فإن عالم الاجتماع والمؤرخ الأميركي الشهير، إيمانويل فالرشتاين، واضع نظرية النظام العالمي الحديث، قد وصل بيقين قاطع إلى أن مهمة التنمية في دول العالم الثالث بالاتجاه غربًا هي المستحيل أو الجنون، أو كلاهما معًا، وقال: "إن العالم الثالث لكي يمتلك نظامًا كذلك الموجود في أوروبا، فهو بحاجة أولًا إلى عالم ثالث آخر ليقوم بنهبه".
لقد منّ الله علينا إذ أرسل إلينا عشرات ومئات الإشارات السماوية، الجبارة والملهمة لفعل حقيقي يخاصم العجز ويكسر معادلة الفقر والحصار المفروضة علينا، وفي ذكرى كل شهيد حمل أثمن ما يملك إلى وجه الله الكريم، تتجدد ضرورة –وواجب- إعادة القراءة والتعلم وفحص ما أحدثوه من آثار هائلة على صفحة حياة الأمم والأوطان.
في مثل هذا الأيام خرج صلاح غندور، ملاك النور والنار، ليكسر بإرادة فولاذية وروح حرة وبهاء وجلال كل ما خططه العدو الصهيوني، ومن معه ومن ورائه من فرض سيطرته على جنوب العز، لم يحتج ملاكنا الطاهر في صبيحة يوم الخامس والعشرين من نيسان 1995، إلا إلى هذا الثبات المعجز على طريق الفداء، ليصنع واحدة من أشرف حكايات النضال في تاريخنا، لم ينظر ملاك إلى وعود السلام ولم يأبه بقلة الإمكانيات، ولم يعوّل على ما يمنحه له عدوه، خطّط وصمّم وسار على الطريق المفتوح ليشعل الأرض نارًا على الصهاينة ويترك لنا نورًا في السماوات وبين النجوم، يؤكد من جديد أن طريق الحرية لن يبدأ بخطوة نحو الأميركي ولا نحو الصهيوني، وإنما هو مرهون وفقط بإرادتنا وعزمنا وثباتنا.