ما بعد خروج المقاومة الفلسطينية من "العشوائية"
أيمن الرفاتي
لم تتوقّف المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني على مدار 75 عاماً انقضت، لكنّها بعد سلسلة من التجارب المريرة وحالة العمل العشوائي والمنفرد لكل فصيل على مدار عقود تدخل مرحلة جديدة تتَّسمُ بالتنظيم والتوافق ووجود السند والظهير الحقيقي، إضافة إلى وضوح الأهداف ورسوخ القناعات لدى قياداتها وعناصرها وحاضنتها الشعبية بقرب الخلاص من المحتل.
المقاومة الفلسطينية اليوم ليست كما قبل الانتفاضتين الأولى والثانية، وليست كما قبل الحروب الثلاث على قطاع غزة، وحالها اليوم ليست كما قبل معركة "سيف القدس" عام 2021؛ فهي اليوم أكثر قوة وتماسكاً على المستوى الميداني والداخلي، إضافة إلى علاقاتها وارتباطاتها مع محور المقاومة، وهذا يعود إلى عوامل عديدة، داخلياً وخارجياً.
فعلى المستوى الداخلي انتهى التداخل لدى الفلسطينيين بين برنامج المقاومة وبرنامج المفاوضات الذي ثبت فشله وعدم جدواه، وبات الجميع يدرك أنهما طريقان لا يلتقيان أو يتقاطعان؛ الأمر الذي وحّد كلّ من يريد المقاومة نحو أهداف استراتيجية لا خلاف عليها بأنّ تطوير العمل المقاوم وتعزيزه بالتحالفات العربية والإسلامية هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين.
المقاومة الفلسطينية بأطيافها كافة باتت اليوم أكثر وعياً وفهماً للواقع، ولديها تركيز عالٍ على الأهداف الاستراتيجية بعيداً عن القضايا الثانوية، وذلك بعدما أدركت أنّ مربّعات الخلاف الداخلي والتنازع على الشعبية والجماهيرية والسلطة ليست ذات جدوى مقابل توجيه الضربات للاحتلال، وأنّ التخلّص من الاحتلال هو الأولوية التي تسبق كل الأولويات الأخرى.
والتفكير نحو الأهداف الاستراتيجية لم يعد محصوراً لدى قادة المقاومة في مختلف الفصائل بل وصل إلى قواعدها التنظيمية والشعبية، وهو ما أفسد الكثير من جهود الاحتلال والأجهزة الأمنية المعادية للمقاومة لتشتيت شمل الشعب الفلسطيني ومقاومته وإضعافها عبر إثارة النزاعات والخلافات الداخلية واللعب على وتر الحزبية والفصائلية.
وليس أدلّ على تجاوز حالة الخلاف والتلاحم الفصائلي في قطاع غزة خلال الفترة الماضية سوى تشكُّل "الغرفة المشتركة" لفصائل المقاومة الفلسطينية، وفي الضفة الغربية المحتلة تجسُّد تلاحم أبناء الفصائل في تشكيل مجموعات "عرين الأسود" في نابلس، والعمل المشترك في جنين، وغيرهما من المناطق أثناء التصدي لاقتحامات الاحتلال للمدن الفلسطينية.
إنّ التطور الذي حدث للمقاومة الفلسطينية لم يكن وليد المرحلة الحالية، بل هو نتيجة تراكم العمل المقاوم منذ بداية الثورة الفلسطينية، إذ أخذ منحنيات تصاعدية في الكثير من المجالات، حتى بات الفعل المقاوم هو خيار غالبية الفلسطينية.
ففي أحدث استطلاعات الرأي ظهر أن قرابة 80% من الفلسطينيين يؤمنون بخيار المقاومة المسلحة كخيار وحيد لإنهاء الاحتلال، وقد أدّت العمليات الناجحة وعجز الاحتلال أمامها إلى تعزيز الإيمان لدى الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني بقرب زوال هذا الكيان السرطاني.
أمّا في الفعل الميداني، فقد تطوّرت المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير جداً، فالمقاومة في قطاع غزة باتت تصنع المعادلات وتضع وتثبّت قواعد الردع والاشتباك مع العدو، بعدما اعتمدت استراتيجية مراكمة القوة وامتلاك الأسلحة الاستراتيجية وتصنيع الصواريخ والأسلحة الأخرى محلياً، لتصبح اليوم أكثر احترافية وقدرة على مواجهة ومجابهة الاحتلال والتأثير عليه.
وفي الضفة الغربية تجاوزت المقاومة كل حملات الملاحقة واستراتيجيات القضاء عليها بدءاً من عمليات "جزّ العشب" وصولاً إلى "كاسر الأمواج" والتآمر الذي تقوم به السلطة الفلسطينية. وباتت تمتلك اليوم مجموعات مقاتلة في عدد من المدن والمناطق، ناهيك عن أنّ روح المقاومة باتت تسري في دماء كل الشباب الفلسطيني في الضفة، وبتنا نرى الأسود المنفردة تضرب الاحتلال وتصنع معادلات ردع جديدة.
وعلى المستوى الخارجي، فقد عاشت المقاومة الفلسطينية سلسلة غير منتهية من عمليات التآمر ومحاولات التخلّص منها، وليس آخرها ما جرى في قمتي "العقبة" و"شرم الشيخ"، لكنَّها مؤخراً ثبَّتت نفسها كلاعب إقليمي حقيقي، بعد امتلاكها الأدوات التي تضغط فيها على الاحتلال وتدفع الإدارة الأميركية للتدخل خشية من وقوع الحرب، حتى بات الإقليم يحسب حساباً لهذه المقاومة، ويرسل ثلاثة وسطاء ليتحدّثوا معها ويضمنوا عدم مبادرتها بالحرب.
وإلى جانب ذلك استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تتّحد مع "محور المقاومة" في المنطقة تحت مسمى "حلف القدس"، وهو ما أدى إلى تعزيز مكانتها وقيمتها الاستراتيجية، وباتت حسابات الاحتلال في التعامل معها أكثر تعقيداً، إذ لم يعد قادراً على التفرُّد بأيٍّ من جبهاتها كما كان في السابق.
لا شك أنَّ المقاومة الفلسطينية مرّت بعدد من الإخفاقات خلال مسيرتها، وتعرّضت لضربات وهزّات كبيرة من الاحتلال، إلا أنّها نجحت في تجاوز ذلك كلّه، وباتت أقوى وأقرب إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، بعدما أعادت تقوية بنيتها الداخلية وتجاوزت الخلافات وعزّزت تحالفاتها الخارجية.