تموضع الأقطاب وتقاسم الأقاليم صراع المتناقضات والأضداد…
د. علي عباس حمية
كلّ ما يجري في العالم بأخباره المسرعة والمتسارعة يبعث على الحيرة والشبهة، وقد سيطرت على العالم معلومات كثيرة وكبيرة تفوق حدّ الإحاطة وتجعل من عملية استعمار العقول وتشتيت الأفكار مع التضليل الإعلامي مهيمناً عليه مما يسهّل تخطي ما يتوقعه المرء أو ضبط إيقاعه.
لقد قام الإعلام المضلل بكلّ أشكاله بتضليل معظم الدول بحيث لم تعد تدري من المنتصر الحقيقي، ولا تعلم من الفائز النهائي، ولا يمكنها التكهّن من العدو أو من يتآمر على من، او حتى بأية جولة من الصراع هم، ولكن كلّ ما عليهم هو انتظار صافرة الحكم للإعلان عن الفائز لربما بالضربات الترجيحية او بالضربة القاضية.
حالياً لا يمكن لأيّ من القوى الكبرى أن يفوز، ولا يمكن لأحد منهم أن يعلن أنه الأقوى أو أنه قطب العالم الأوحد، لأنّ الجميع يمارس سياسة صراع المتناقضات والأضداد على الآخر فينتصر هنا وينهزم هناك مع الحفاظ على التوازن، وبات العالم يعيش حالة من الندية وتعادل القوة إنْ كانت دولية أو إقليمية، إذاً، لا بدّ من التفاهم والانتقال من الحروب العسكرية المباشرة الى الحروب الأمنية ويعمل الجميع على قتل عدوّه وتآكله من داخله بمعادلة من يحصل على المعلومة أولاً ينتصر.
لقد وصل الجميع الى نقطة تجبره على العيش معاً أو الدمار والفناء، إذ لم تعد تجدي المعارك بين الحروب، وبالتالي أصبح على الجميع القبول والإعلان عن تسوية ترضيهم وإلا الحرب الكبرى آتية لا محالة وهي التي لا تبقي ولا تذر.
لربما قريباً ستنتهي الحرب الأوكرانية الروسية وبتسوية على حساب أوكرانيا، وهذا ما سيكون إذا فهمت أوروبا ما يجري جيداً وتراجعت عن دعمها ولم يستمرّ الغرب وبالأخص أميركا بالتحريض على الحرب وإلا فإنها ستتوسّع لتكون حرباً عالمية شاملة، وهذا ما لا يطيقه أحد.
وهنا الاعتقاد أنّ أمّ المعارك والانتصارات ستكون بالجلوس إلى طاولة التسويات الدولية وتقسيم نفوذ القطبية كلّ وفق قدراته الحالية، وعليه، ستكتفي خلالها روسيا بقطبية إقليمية تشمل بنفوذها المباشر بعض دول أوروبا الشرقية، والصين يكون لها نفوذ مع جنوب وشرق آسيا، ومن ثم أميركا تكون لها القيادة لأميركا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا، اما أفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض دول أميركا الوسطى فإنها موضوع قابل للتفاوض والتجاذب الاقتصادي في ما بين الثلاثية القطبية والعالم الجديد او يتمّ تركها لنفوذ دولة إقليمية تتبع القطبية التي تلائمها. ويبقى موضوع معضلة الشرق الأوسط أو غرب آسيا فإنه بحاجة لتقاسم النفوذ الثلاثي الأبعاد بين الأقطاب كافة مع دور لقطبية إقليمية مناطقية تدور من خلال حرب باردة بين حلف المقاومة من أجل كلّ فلسطين، وهو صاحب عقيدة، وحلف التطبيع والصهاينة من أجل بعض فلسطين ونسيان القضية.
إذاً نحن أيضاً نعيش حالة من صراع المتناقضات، ولا بدّ من التسويات. وعليه، فإنّ التسوية ستشمل منطقتنا لتتخطى الجغرافيا العسكرية وتترك المجال للتنمية الأمنية والاقتصادية منها، وبهذا التموضع الحالي يكون الكلّ راضياً بما حصل عليه من مكتسبات وتكون المعادلة «رابح رابح» لكلّ الأطراف ولكن الى أجل ليس ببعيد، مع إبقاء الإصبع على الزناد هنا وفي العالم أجمع.
ولكن هل سترضى أميركا بما يتمّ من خلاله تقاسم النفوذ والقطبية معها؟ وهل ستعلن انحسارها أمام الاقتصاد الصيني والقوة العسكرية الروسية والأمنية الإيرانية؟
لربما ستقبل أميركا هذه السنة التي تعيش فيها حالة من الضعف ولكن فقط لحين انتخاب رئيس جديد لها، نظراً لما تعانيه من حرب الزعامة الترامبية، ولكنها على الرغم من ذلك ستكون ضمن شروط لقبولها، وهي ان يبقى الدولار عملة التجارة العالمية او أقله مقياس العملات الأخرى وان لم يتمّ التداول المباشر به.
وإلا لن تقبل أميركا بأن تتمّ التسوية على عملتها وهي التي أوصلت حليفتها أوروبا الى ما وصلت إليه من تعاسة وشحّ غذاء وطاقة، كما وقد عجّلت بمحاولاتها لتفكيك الاتحاد الاوروبي وصولاً لانهيار اليورو لاحقاً، وذلك استعجالاً قبل افتتاح طريق الحرير من الصين الى أوروبا لعلمها انه لربما سيكون الدفع والتعامل باليورو وقليلاً بـ اليوان او الروبل، وبذلك تكون بداية القضاء على أحلام الدولار وإنزاله عن تربعه على قمة العملة التجارية العالمية.
إذاً، فإنّ أميركا ستحارب أية عملة تنافس الدولار ولربما ستدمّر ايّ منافس له حتى ولو كان من الحلفاء المقربّين جداً، وهي ايّ أميركا يهمّها ان يتفكك الاتحاد الأوروبي ليتلاشى اليورو ويبقى الدولار رائد العملات التجارية…
ولكن هل سترضخ أوروبا ان لا يكون لها دور في القطبية الجديدة، أو أن تكون تحت المظلة الأميركية؟ أم أنّ أوروبا ستقوم منفردة بالتسوية أيضاً مع روسيا والصين؟ ولكن هل لدى الاتحاد الأوروبي قدرة تسمح له بالخروج من السيطرة الأميركية؟
التسوية اذاً هي بين روسيا وحلفائها من جهة مثل الصين وإيران تقابلهم أميركا مع دول أوروبا التي ليس فيها زعيم او رئيس قادر على التمرّد.
وعليه، فإنّ التسويات الكبرى ستكون أهمّها على مواقع الغاز والنفط في كلّ بقاع العالم وبالأخصّ منطقة الشرق الأوسط ولاحقاً الحوض الشرقي للبحر المتوسط وتحديداً حر لبنان،
وعلى هذا الأساس فالكلّ يعقد اتفاقات ويتعامل مع الآخر من مكان تموضعه القديم الجديد بحيث أصبحت كلّ دولة تتمتع بهامش مناورة ضمن معسكرها بإمكانية عقد الصفقات والاتفاقات مع الخصم ولكن ضمن حدود التجارة والأمن فقط مع إبقاء الانتماءات والاصطفافات على حالها بحيث لا يتدخل ايّ من الأطراف بشؤون الطرف الآخر الداخلية مهما فعل من اتفاقيات حتى ولو كانت مع بلد صديق او خصم أو عدو.
كما علينا ان لا ننسى ما يجري في أراضي فلسطين المحتلة من قمع واحتلال من جهة ومن صراع بين الصهاينة أنفسهم ولكنهم من جهة أخرى سيقومون بمحاولة حلّ مشاكلهم الداخلية وتوحيد متناقضاتهم بحرب على غزة أو الضفة أو لربما لبنان او سورية. الا انّ العدو الصهيوني يعيش حالة صراع المتناقضات التي كان يبثها بين الدول ليبقيها على خصام عادت عليه بالويل ولربما تكون سبب نهايته قريباً.
أبناء العهد والماسونية والصهيونية، هو الصراع بين العقيدة والإلحاد ولكن الهدف كان واحداً ولكنه خرج عن السيطرة ولم يعد كذلك، فلا السلام الابراهيمي ولا حقبته ولا حتى تطبيعه سيحميه على المدى الطويل، فهذا العدو يعاني عقدة الوقت والوجود.
ذلك هو جزء من صراع المتناقضات والأضداد المستمرّ على أمل إكمال أجزائه الباقية في الآتي من الزمن والأحداث،
فلتبق العيون شاخصة على ما ستحمله الأيام القليلة المقبلة علينا… وبالأخصّ لبنان وبحر لبنان…