المنطقة على صفيح ساخن: ضرورات التعاون تتعدى المصالح السياسية
زياد غصن
الآمال تبقى مشرعة لتجاوز العقبات الخارجية وصياغة عقد جديد من العلاقات والتحالفات الإقليمية المبنية على تحقيق مصالح شعوب المنطقة واستثمار الإمكانيات والقدرات المتاحة لضمان استقرار طويل الأمد.
بعيداً من حسابات السياسة وأهدافها ومتغيراتها، تفرض مجموعة من التحديات الإقليمية والدولية نفسها على دول المنطقة، مهددة إياها بخسائر قد تخرج عن السيطرة في ما لو فشلت الجهود القطرية والإقليمية في مواجهتها والتحكم فيها.
لذلك، إن أهمية حراك المصالحات الإقليمية الجاري حالياً لا تتوقف على استعادة بعض من الاستقرار السياسي والأمني المفقود طيلة السنوات السابقة، إنما تمتد لتشمل أيضاً جوانب التعاون في مجالات اقتصادية وبيئية واجتماعية تشهد أزمات متعددة الأوجه والأشكال والأسباب، وحلها بحاجة إلى تضافر وتكامل جهود إقليمية.
وقد يكون الاتفاق الذي جرى مؤخراً بين وزراء الزراعة في 4 دول عربية، والذي كانت "الميادين نت" أشارت إليه قبل نحو شهر، أحد تلك الجهود التي يمكن أن تكتسب زخماً كبيراً بعد المصالحة السعودية الإيرانية، والانفتاح العربي على سوريا، وجهود إصلاح وتطبيع العلاقات بين العراق وسوريا من جهة، وتركيا من جهة ثانية.
5 تحديات
للتعرف إلى الأبعاد الإستراتيجية لحراك المصالحات الإقليمية وأثرها الاقتصادي والاجتماعي، من الضروري تحديد أبرز المشكلات والتحديات التي تواجه الإقليم في المجالات غير السياسية والأمنية العسكرية، وهي للأسف كثيرة ومتغيرة وتزداد خطورة مع مرور الوقت.
يمكننا في هذه العجالة تقديم لمحة موجزة وسريعة عن هذه المشاكل والتحديات:
أولاً، أزمة الغذاء التي باتت تهدد دولاً كثيرة على مستوى الإقليم أو العالم، إما بفعل سنوات الجفاف والأزمات الداخلية وما قادت إليه من انخفاض في كميات الإنتاج الزراعي وإما نتيجة الارتفاع غير المسبوق عالمياً في أسعار السلع والمواد الغذائية بعد الحرب الأوكرانية، وما تبعها من اختناقات في انسياب السلع الزراعية بين الدول المنتجة وأسواق الدول المستهلكة.
إنّ دول الإقليم، بدءاً من سوريا والعراق، مروراً بلبنان والأردن، وصولاً إلى السعودية وإيران واليمن ومصر، تمتلك مقومات زراعية متعددة، من مساحات قابلة للزراعة وموارد مائية وخبرة فنية وعملية تؤهلها للتنسيق والتكامل والاستثمار المشترك في ما بينها، وهي قادرة، في حال استثمرت هذه المقومات بشكل تكاملي، على توفير معظم احتياجاتها الغذائية المحلية، بما يضمن تعزيز استقرارها السياسي والاقتصادي.
على سبيل المثال، ووفقاً لمضمون الاتفاقية التي وقع عليها وزراء الزراعة الأربعة مؤخراً في دمشق، هناك 3 مجالات مهمة للتعاون بين كل من سوريا ولبنان والأردن والعراق. المجال الأول هو البحوث العلمية الزراعية والإنتاج النباتي. وفي هذا المجال، ستكون هناك 9 خطوات محددة للتعاون.
المجال الثاني يتعلق بالإنتاج الحيواني والثروة الحيوانية. وقد جرى تحديد 5 أولويات لذلك. أما ثالث مجالات التعاون، فهو تبادل السلع والمنتجات الزراعية. ومن المخطط هنا التعاون والتنسيق في 8 إجراءات تستهدف في النهاية تحقيق انسياب للسلع والمنتجات الزراعية بين الدول الأربع. وبحسب وزير الزراعة السوري في لقاء سابق مع "الميادين نت"، فإن الانضمام إلى الاتفاقية سيكون متاحاً لجميع الدول العربية الراغبة في ذلك.
ثانياً، أزمة الطاقة العالمية وما تفرضه من ضغوط ومتغيرات على دول المنطقة المنتجة في معظمها للنفط والغاز من جهة، وعلى الدول المستهلكة من جهة ثانية. وقد أسهمت حالة عدم الاستقرار في العلاقات السياسية على مدار السنوات السابقة في تعطيل مشروعات عدة كان يمكن لتنفيذها تعزيز مكانة دول المنطقة ونفوذها في خريطة سوق الطاقة العالمية.
وقد يشكل الاتفاق السعودي الإيراني البوابة نحو استعادة التنسيق المشترك في قضايا الإنتاج والتسويق والاستثمار والأسعار، وبما يحقق مصالح شعوب المنطقة وقضاياها. كذلك، فإن بعض الدول غير المنتجة للنفط والغاز، من مثل لبنان والأردن وسوريا المحتلة حقولها من قبل الأميركي، يمكنها أن تجد في هدوء الأوضاع في المنطقة حلاً مستداماً لمسألة توريد المشتقات النفطية، وخصوصاً مع عودة مياه العلاقات البينية بين الدول إلى مجاريها الطبيعية والمفترضة.
وإذا سار التعاون الطاقوي بين دول المنطقة على السكة الصحيحة، فإن الفرصة تبدو متاحة لدخول هذا التعاون إلى ميدان بناء شبكات تصديرية للنفط والغاز تكون منافسة من حيث التكلفة والوقت للشبكات والخيارات القائمة الحالية.
ولعل أحد المجالات هو استثمار دول الخليج وإيران المصدرة للنفط والغاز واجهة البحر المتوسط للوصول إلى الأسواق الأوروبية أو زيادة حضورها في الأسواق الآسيوية، وكذلك الحال بالنسبة إلى الخيارات البرية عبر سوريا وتركيا.
ثالثاً، التغيرات المناخية العابرة للحدود السياسية والجغرافية، التي يبدو أنها ستتجه نحو مزيد من التعمق خلال المرحلة المقبلة وفقاً للتنبؤات العلمية والبحثية. وبحسب ما سجلته المؤسسات والدوائر البحثية في عدد من الدول، فإن تأثيرات هذه التغيرات تتجاوز غالباً الحدود القطرية لتشمل الإقليم. مثلاً، إن تغير التوزع الجغرافي للهطولات المطرية واشتداد العواصف الغبارية وغيرها ليسا حكراً على بلد دون غيره، إنما هما ممتدان جغرافياً.
وتهدد التغيرات المناخية الأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للعديد من دول المنطقة، وما انعقاد مؤتمر القاهرة الأخير حول المناخ سوى إحساس من دول العالم بضرورة توحيد الجهود المشتركة وتكثيفها لمواجهة التغيرات المناخية والحد من تأثيراتها.
ووفقاً لما أشارت إليه الدراسات البحثية الأخيرة لمؤسسات سورية، فإن ظاهرة العواصف الغبارية شهدت في العام الماضي نشاطاً ملحوظاً، إذ امتدت تأثيراتها إلى العراق وإيران والأردن، ما يحتم على الدول المشار إليها التعاون حفاظاً على أرواح مواطنيها وأمنهم الاقتصادي.
رابعاً، التبادل التجاري والاستثماري بين دول المنطقة، الذي تبدو آفاقه الفعلية واسعة جداً، وإن كان قد حافظ على مستويات متدنية طيلة السنوات الماضية، وهي تبدو مرشحة لدخول مرحلة مختلفة من الانتعاش، وذلك مع زوال الموانع والعوائق السياسية من جهة، واعتماد معظم الدول سياسات ومشروعات اقتصادية تنموية طموحة من جهة ثانية.
تظهر جميع المؤشرات أن التبادل التجاري والاستثماري بين دول المنطقة يمكن أن يحقق خلال فترة وجيرة أرقاماً كبيرة، لا سيما إذا ما خلص التطبيع السوري - التركي إلى إعادة فتح المعابر الحدودية وتنشيط خطوط الترانزيت من جديد بين الشرق والغرب، وكذلك تعزيز حالة الملاحة التجارية في الخليج العربي.
خامساً، المياه، وهي الهاجس المتزايد لدى الجميع في ضوء موجات الجفاف والتغيرات المناخية التي تضرب المنطقة منذ سنوات. يعد هذا الملف أكثر حساسية وأهمية بالنسبة إلى كل من سوريا والعراق، وتحديداً بالنسبة إلى الواقع المائي المتعلق بنهري الفرات ودجلة والإجراءات التركية التي تحول دون حصول البلدين على حصصهما المائية العاجلة وفقاً للاتفاقيات الدولية.
لهذا، فإن ملف المياه هو أحد الملفات الأساسية المطروحة للنقاش على طاولة المفوضات السورية -التركية، وكذلك الحوار العراقي – التركي، وهناك تنسيق سوري - عراقي مشترك ومستمر في هذا الخصوص.
ليست سهلة
هذه التحديات وغيرها تفرض نفسها على خريطة التعاون الجديدة لدول المنطقة، ولن يكون من السهل التعامل معها في ظل وجود أطراف تتعارض مصالحها مع الانفراجات الحاصلة، فالولايات المتحدة الأميركية لا يسرها مثل هذا التعاون تحت أي مسمى ومستوى، وستعمل على عرقلته بالاستفادة من الأدوات المستخدمة حالياً، كالعقوبات على سوريا وإيران أو إثارة مشكلات جديدة بذرائع مختلفة، وهذا هو حال الكيان الصهيوني أيضاً الذي يستشيط غضباً من الاتفاق السعودي الإيراني.
ومع ذلك، فإن الآمال تبقى مشرعة لتجاوز العقبات الخارجية وصياغة عقد جديد من العلاقات والتحالفات الإقليمية المبنية على تحقيق مصالح شعوب المنطقة واستثمار الإمكانيات والقدرات المتاحة لضمان استقرار طويل الأمد، وفي جميع المجالات والقطاعات الحياتية. الأمر بحاجة فقط إلى توفر إرادة سياسية لاستغلال هذه الفرصة وتطويرها.